الأفعال صوتها أعلى من الكلمات

*

الكاتب: ديريك جنسن

ترجمة: طوني صغبيني

المقال نُشر في العام 1998 في مجلة “الأرض أولاً” (متاح بالإنكليزية على الرابط هنا)

نٌشر باللغة العربية على مدوّنة نينار

 *

عندما استيقظ كل صباح أسأل نفسي ما إذا كان يجب أن أكتب أو أن أفجّر سدّاً. أخبر نفسي أنني يجب أن استمرّ بالكتابة، رغم أنني لست واثقاً من أنه الخيار الصحيح. لقد كتبت العديد من الكتب وقمت بنشاط على الأرض، لكن ليس النقص في الكلمات ولا النقص في النشاط هو ما يقتل أسماك السلمون هنا في الشمال الغربي الأميركي. إنها السدود.

كل من يعلم حتى ولو شيء صغير عن أسماك السلمون هنا يعلم أنه يجب على السدود أن تذهب. وكل من يعلم ولو شيء صغير عن السياسة يعلم أن السدود ستبقى. العلماء يدرسون، والسياسيون ورجالالأعمال يكذبون ويماطلون، وموظّفو الدولة يعقدون الاجتماعات العامة المزيّفة، والناشطون يكتبون العرائض والبيانات الصحفية، وأسماك السلمون تستمرّ بالموت.

من المحزن أنني لست وحيداً في عجزي أو فقدان إرادتي على القيام بالإجراءات المناسبة. أعضاء المقاومة الألمانية في وجه أدولف هتلر من العام 1933 حتى العام 1945 على سبيل المثال، أظهروا انعدام هائل للبصيرة لكنه مألوف: رغم معرفتهم بأنه يجب إزاحة هتلر لكي يتمكنوا من وضع حكومة “محترمة”، أمضوا وقتاً يتصوّرون نسخاً ورقية من هذه الحكومة الافتراضيّة أطول مما أمضوا في محاولات فعلية لإزاحته عن السلطة. لم يكن نقصاً في الشجاعة ما سبّب لهم هذا الغياب في البصيرة بل كان شعور مضلّل بالأخلاقيات. كارل غويرديلير، مثلاً، رغم أنه كان الأنشط في محاولة خلق هذه الحكومة الجديدة، عارض بشدّة اغتيال هتلر، معتقداً أنه إن كان يمكن لهما أن يجلسا سوية وجهاً لوجه، قد يلين هتلر في سياساته.

 نحن أيضاً نعاني من غياب البصيرة ويجب أن نتعلّم أن نميّز بين الآمال الحقيقية والآمال الزائفة. علينا أن نتخلّص من الآمال الزائفة التي تجعلنا عمياناً تجاه الحقيقة. هل يؤمن أيّ منّا حقاً بأن الاحتجاجات ستدفع وايرهوسر أو شركات قطع الأخشاب العالميّة الأخرى إلى التوقّف عن تدمير الغابات؟

هل يؤمن أحد حقاً بأن نفس المدراء في الشركات الذين يقولون “اتمنى أن تنقرض أسماك السلمون حتى يمكننا متابعة حياتنا (من دون إزعاج المنظمات البيئية)” (وهو ما قاله راندي هاردي، أحد المدراء في شركةبونفيل للكهرباء)، سوف يتصرّفون بطريقة أخرى لا تؤدّي إلى إشباع رغباتهم؟ هل يؤمن أحد حقاً بأن نمط من الاستغلال قديم بعمر حضارتنا نفسها يمكن إيقافه عبر الطرق القانونية والتشريعية، أو عبر طرق أخرى غير الرفض الكامل للذهنية التي تهندس الاستغلال، مصحوب بأفعال مقاومة مرتكزة على هذا الرفض؟

هل يؤمن أحد حقاً بأن من يدمّرون العالم سيتوقّفون عن ذلك لأننا نطلب منهم ذلك بلطف أو لأننا نقيّد أنفسنا بالسلاسل بشكل سلمي أمام مكاتبهم؟

يمكن أن يكون هنالك قلّة لا تزال تعتقد أن هدف الحكومة هو حماية المواطنين من نشاطات أولئك الذين يريدون التدمير والاستغلال. لكن العكس هو صحيح:

عالم الاقتصاد السياسي آدام سميث كان محقاً حين لفت النظر إلى أن الهدف الرئيسي للحكومة هو حماية أولئك الذين يديرون الاقتصاد من غضب المواطنين المتضرّرين منه.

التوقّع من المؤسسات التي خلقتها ثقافتنا بألا تقوم بتسميم المياه، تفتيت الجبال، تدمير الطرق البديلة للعيش وارتكاب الإبادة البيئية، هو اعتقاد ساذج لدرجة لا تغتفر.

العديد من متآمري المعارضة الألمانية تردّدوا في إزاحة هتلر من السلطة لأنهم كانوا قد أقسموا الولاء له ولحكومته. أفكارهم سبّبت لهم تردّداً أكثر من الخوف. كم منّا عليهم بعد أن يتخلّصوا من فضلات ذلك الاعتقاد الخاطىء بشرعيّة الحكومة التي، كأطفال، أقسمنا لها الولاء والطاعة؟ كم منّا يفشلون في تخطّي الخطّ الفاصل إلى المقاومة العنيفة لأننا لا نزال نعتقد أن السيستيم يمكن إصلاحه بطريقة ما؟ وإن كنّا لا نؤمن بتلك الأمور، ما الذي ننتظره إذاً؟ كما قال شكسبير، “الضمير يجعلنا جميعاً جبناء”.

يمكن القول أن مقارنة الحكومات الحالية بهتلر هو مبالغة بالقضيّة. لكنّي لست متأكداً إذا ما كانت أسماك السلمون ستوافق على ذلك، أو السنّور البرّي، أو شعوب البيرو، أندونيسيا وغيرها من الأماكن التي يدفع فيها الناس حياتهم ثمناً لأسلوب عيشنا.

إن كنا سنبقى، علينا أن نعترف بأن عدم القيام بشيء يسبّب الموت بالدرجة نفسها التي يسبّبها القيام بشيء ما. علينا أن نعترف، كما كتب هرمان هيسه: “نحن نقتل حين نغلق أعيننا أمام الفقر، المحن، والشرور. نحن نقتل لأنه من الأسهل، نقول لنفسنا، بأن نوافق على مؤسسات اجتماعية، سياسية، تعليميّة ودينية فاسدة، على أن نحاربها بحزم”.

السؤال المركزي – وفي الكثير من الأحيان السؤال الوحيد – لزماننا هو هذا: ما هي الردود العقلانيّة، المناسبة، والفعّالة تجاه هذا السلوك التدميري الهائل؟

في أحيان كثيرة، أولئك الذين يعملون على إبطاء التدمير يمكن أن يصفوا المشكلة بشكل واضح. من لا يستطيع القيام بذلك؟ فالمشاكل ليست معقّدة أو صعبة على الفهم ذهنياً. لكن عند مواجهة المهمّة العاطفية الصعبة التي تتمثّل بالخروج بردّ مناسب على هذه المشاكل المستعصية، نعاني عموماً من مشكلة في الجرأة والخيال. غاندي كتب رسالة لهتلر يطلب منه فيها التوقّف عن ارتكاب المذابح وكان مدهوشاً أن طريقته لم تنجح. أنا أواظب على كتابة الرسائل لمحرّري المجلات المحلية – التابعة للشركات الكبرى في جميع الاحوال – وأشير إلى المعلومات المضللة التي تنشرها ودائماً اتفاجأ بالسخافات اللاحقة التي تُنشر رغم ذلك على صفحاتها.

أنا لا أقول أن تنفيذ برنامج اغتيالات مركّزة سوف يحلّ جميع مشاكلنا. لو كان الأمر بهذه البساطة، لم أكن أقوم بكتابة هذه المقالة في هذه اللحظة. اغتيال سلايد غورتون ولاري كريغ على سبيل المثال، وهما نائبان من الشمال الغربي الأميركي يمكن وصف عملهما بأنه إبادة بيئية في أقلّ الأحوال، سوف يبطّىء عملية التدمير البيئي في المنطقة بنفس القدر الذي تحققه كتابة رسالة إليهم. فهم ليسوا فريدين وليسوا وحدهم؛ النائبان هما مجرّد أدوات لتنفيذ الإبادة، كما هي السدود، الشركات الكبرى، المناشير الكهربائية، والقنابل الحارقة والأسلحة النووية. لو قام أحدهم بقتلهما، سيأخذ آخرون مكانهما وينفّذون الدور نفسه. برامج الإبادة البيئية المنبثقة عن النفسيّات المريضة لغورتون وغريغ قد تموت معهما، لكن الطبيعة العامة لثقافتنا سوف تستمرّ بكامل اندفاعها، ما يجعل عمليّة استبدالهما بسهولة شراء حذاء جديد.

هتلر أيضاً كان منتخباً بطريقة قانونية و”ديمقراطية” مثل هذين النائبين. هتلر أيضاً عبّر عن رغبة التدمير في ثقافته بطريقة معبّرة لدرجة أنه أسر قلوب ملايين الذين صوّتوا لإيصاله إلى السلطة ولدرجة كافية للحصول على الولاء الكامل للملايين الذين نفّذوا رؤيته. هتلر، مثل هذين النائبين، ومثل جورج ويريهوسر وغيره من مديري الشركات الكبرى، لا يتصرّفون وحدهم. لماذا إذاً، يجب علي التمييز بين هتلر والحكومات الحالية؟

السيستيم الحالي بدأ بالانهيار على وقع ثقل التدمير البيئي الذي يمارسه، وهذا ما يمكن أن نساعد به. بعد نقل ولائنا من ولاء للمؤسسات الحكومية والاقتصادية غير الشرعية المنبثقة عن حضارتنا، إلى ولاء للأرض، هدفنا يجب أن يكون حماية السكّان البشريين وغير البشريين لأرضنا بشتى الوسائل الممكنة. هدفنا، هو كهدف فريق هدم للمباني في المدينة: العمل على مساعدة حضارتنا على الانهيار في مكانها، حتى تسقط على نفسها مسبّبة بأقل قدر ممكن من الموت.

النقاش حول هذه الأمور يفترض وجود مسافة بيننا وبين ما نناقشه، وحقيقة أننا نناقش حول ما إذا كان العنف مناسباً يقول لي أننا لا نكترث كفاية. هنالك نوع من الأفعال لا تنبثق من النقاشات، من النظريات، بل من أجسادنا ومن الأرض. هذه الأفعال هي فعل النحلة التي تلسع للدفاع عن قفيرها؛ هي فعل الدبّة الأم التي تهاجم قطاراً للدفاع عن صغارها؛ إنها أفعال المتحدّثة باسم حركة الزابتيستا، سيسيليا رودريغيز، تقول: “لدي سؤال للرجال الذين اغتصبوني. لماذا لم تقتلوني؟ لقد ارتكبتم خطأً بالحفاظ على حياتي. فأنا لن أسكت – وما قمتم به لم يكسرني إلى درجة الشلل”. إنها أفعال الناشط النجيري كين سارو ويوا، الذي اغتالته الحكومة النيجيرية بطلب من شركة النفط “شل”، الذي كانت كلماته الأخيرة: “يا رب، خذ روحي، لكن الصراع سيستمرّ!”. إنها أفعال أولئك الذين شاركوا في انتفاضة سجن وورسو في وجه النازيين. إنها أفعال (القادة الأميركيين الأصليين الذين قاوموا الاحتلال الأوروبي) كرايزي هورس، سيتينغ بول، وجيرونيمو. إنها أفعال أسماك السلمون التي تدقّ رأسها بالباطون في السدود، مستعملة السلاح الوحيدة الذي تملكه، جسدها، في محاولة لكسر ما يقتلها ويبقيها بعيدة عن بيتها.

 لا اعتقد أن السؤال حول استخدام أو عدم استخدام العنف هو السؤال الوحيد. السؤال يجب أن يكون: هل تشعر بالخسارة لدرجة كافية؟

طالما أننا نناقش هذه الأمور بشكل تجريدي، سنخسر المزيد والمزيد. إن بدأنا بالشعور في أجسادنا بهول ومدى فظاعة ما نخسره كل يوم؛ بالمجتمعات الطبيعية التي يتم تدميرها، بالحياة والساعات التي نبيعها مقابل أجور، بالطفولة التي نخسرها للعنف، وبقدرة النساء على المشي في الشارع من دون خوف، سنعلم حينها فعلاً ما الذي يجب القيام به.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *