تنفيذ الحرب الإيكولوجيّة الحاسمة

من المهم أن نشير إلى أنه كما في حالة حرب الاستنزاف الشعبيّة، الحرب الإيكولوجيّة الحاسمة لا تتطوّر بالضرورة في خطّ مستقيم.  في هذا السيناريو، المقاومون يعودون إلى المراحل السابقة بحسب الحاجة. بعد انتكاسات كبرى، تركّز منظّمات المقاومة على البقاء وبناء الشبكات فيما يعيدون تنظيم صفوفهم ويحضّرون لتحرّكات أكثر جدّية. أيضاً حركات المقاومة تتقدّم من مرحلة لمرحلة بحسب الترتيب الموضوع هنا وتتراجع من مرحلة إلى مرحلة بحسب الترتيب نفسه. مثلاً إن تمّت المرحلة الرابعة بنجاح وتم تفكيك البنية التحتية الصناعية العالميّة، يعود المقاومون لتعطيل المنظومات على مستوى إقليمي أو محلّي. وإن كان ذلك ناجحاً يعودون إلى المرحلة الثانية ويركّزون جهودهم على أكثر الأهداف سوءاً. ولكن حتى هذا السيناريو يستوجب بقاء بعض الناس في المرحلة الأولى بشكل دائم للحفاظ على ثقافة مقاومة ونقل المعرفة الأساسية والمهارات الضرورية للقتال لقرون عديدة.

 تقدّم الحرب الإيكولوجيّة الحاسمة سيكون مشابهاً للتقدّم الإيكولوجي. منذ عدّة أشهر زرت مقلعاً مهجوراً حيث تم نزع وتفجير التربة وعدّة طبقات من الصخور، ما ترك تجويفاً مربعاً من عدّة طوابق عميقاً في الصخر. لكن كان هنالك القليل من الغبار والتراب تجمّع في إحدى الزوايا، وظهرت بعض الطحالب. الطحالب صغيرة لكنها تستوجب القليل من المغذّيات والمياه. بعد نموّ الطحالب لبضعة مواسم، ستكون قد جمعت ما يكفي من التربة لنموّ العشب. العشب هو عادة أولى الفصائل التي تستوطن أي بيئة مدمّرة سابقاً. بالطريقة نفسها، المنظّمات المقاومة الأولى تكون عموميّة لا اختصاصيّة؛ تكون متينة وتنتشر بسرعة وتتكاثر إما ناشرة بذورها في حركات علنيّة أو خالقة شبكات سرّية متداخلة.

الأعشاب في المقلع تبني التربة بسرعة، وقريباً سيكون هنالك ما يكفي من التربة للأزهار البرّية وبعض النباتات الأخرى. بالطريقة نفسها، وجود أعداد كبيرة من منظّمات المقاومة البسيطة تؤسس لمجتمعات مقاومة وثقافات مقاومة يمكن أن تفتح الطريق لمنظّمات مقاومة أكثر تعقيداً وفعاليّة.

* * *

الناشطون الافتراضيون الذين ينفّذون هذه الاستراتيجيّة يستطيعون الانتقال بذكاء من مرحلة لأخرى: تشخيص وجود العناصر الصحيحة في مكانها حين تكون شبكات المقاومة معبّأة ومدرّبة كفاية، وحين تملي الضغوط الخارجية حدوث تغيير. في الدليل الميداني للجيش الأميركي حول العمليات، الجنرال أريك شينسيكي يجادل بأن قواعد الاستراتيجيّة “تستوجب من القادة أن يتمكّنوا من التحوّلات، أن يكونوا قادرين على التكيّف. التحوّلات – نشر القوّة، المدى والمدة بين العمليّة الرئيسيّة والعمليّات اللاحقة، تأمين الأهداف، العبور على الخطوط الأماميّة – تحرم من عناصر المفاجأة العمليّاتية. التمكّن من التحوّلات هو المفتاح للحفاظ على عنصر المبادرة والانتصار الحاسم”.

هذا الأمر صعب بشكل خاصة حين لا تمتلك المقاومة قيادة مركزيّة. في هذا السيناريو لا يوجد وسائل مركزيّة لنشر الأوامر العمليّاتيّة أو التكتيكيّة، أو لجمع معلومات دقيقة وفعّالة عن قوى المقاومة وحلفائها. شينسكي يقول: “هذا يضع أهميّة كبيرة على الجهوزيّة – جنود مدرّبين جيداً، قادة قادرين على التكيّف ويفهمون عقيدتنا، وتشكيلات حيويّة وصارمة وقاتلة”. الفكرة مهمّة، رغم أن المقاومين في هذا السيناريو غير مهتمّين بأن تكون تشكيلاتهم “قاتلة” بقدر ما هم مهتمّين أن تكون فعّالة.

مقاومة الحضارة هي بطبيعتها لامركزيّة. وهذا سيف ذو حدّين للمجموعات السرّية التي تمتلك اتصال محدود جداً مع الآخرين. لتعويض النقص في بنية القيادة، هنالك حاجة في هذا السيناريو لعرض وقبول استراتيجية كبرى (تتفق عليها كل مجموعات المقاومة ضمنياً). إلى ذلك، المجموعات المتحالفة تكون مستعدّة لاتخاذ خطوات حين يدعو الوضع الاستراتيجية لذلك. هذه المجموعات مستعدّة لاستغلال أزمات مثل الانهيارات الاقتصادية (للقيام بتحرّكاتها).

  في هذا السيناريو البديل، تنظيم المقاومة في خلايا صغيرة لديه انعكاسات كبيرة في ما يتعلّق بتطبيق مبادىء الحرب. الجسم المثالي لإسقاط الحضارة الصناعية كان يجب أن يكون شبكة عسكرية هرميّة كبيرة. هكذا شبكة كان يمكن أن يكون لديها التدريب، الانضباط والتحرّكات المنسّقة المطلوبة لتنفيذ أعمال حاسمة على مستوى قارّي. لكن لأسباب عمليّة كثيرة، هكذا شبكة موحّدة لا تظهر أبداً. حين ظهرت هكذا شبكات في الماضي خلال صراعات المقاومة، كما في حالة الجيش الجمهوري الإيرلندي أو المجموعات المتمرّدة التي كان لديها مناطق جغرافيّة، ظهرت في ظلّ غياب دولة المراقبة المعاصرة وفي ظلّ وجود ثقافة مقاومة متقدّمة ومعارضة واسعة وشديدة للمحتلّ.

 رغم أن الخلايا السرّية ستظلّ تتشكّل من زملاء وأقارب يثقون ببعضهم بعضاً، اتشكيل شبكات عسكريّة واسعة هو أكثر صعوبة في السياق المناهض للحضارة الذي نتحدّث عنه هنا. فأولاً، نسبة المجنّدين المحتملين من السكّان هي أصغر من أي صراع مقاوم ضد الكولونياليّة أو الاحتلال في التاريخ. لذلك سيتطلّب الأمر الكثير من الوقت وسيكون أكثر صعوبة توسيع الشبكات السرّية الموجودة. الخيار الذي استعملته بعض المجموعات المقاومة في فرنسا المحتلّة كان الربط وإنشاء تحالفات بين الخلايا السرّية الموجودة، لكنّ ذلك بطبيعته صعب وخطير. أي مجموعة سرّية تمتلك غطاءً مناسباً ستكون غير ظاهرة لمجموعات أخرى تبحث عن حلفاء (وهنالك العديد من القصص في نهاية الحرب العالمية عن مقاومين يعيشون في نفس المنازل من دون أن يعلموا انتماءات بعضهم البعض). وكذلك، كشف نفسك لحلفاء لا تعرفهم هو عمل فيه مخاطرة كبيرة.

النتيجة الأكثر ترجيحاً في هذا السيناريو هي أن يكون هنالك مجموعات من أحجام مختلفة، بضعة شبكات كبيرة مع عدد من الخلايا الصغيرة المستقلّة غير المرتبطة بها مباشرة بخطوط القيادة. يكون هنالك صلات غير مباشرة هو تواصل عبر طرق مؤمّنة، لكن تلك الطرق نادراً ما يمكن التأمين لها أو الاعتماد عليها كفاية لتأمين تحرّكات منسّقة فورية في وقت قصير.

الخلايا وحدها نادراً ما تمتلك الأعداد أو اللوجستيات للانخراط في تحرّكات متزامنة متعدّدة في أماكن مختلفة. هذا العمل يقع على عاتق المجموعات التي تمتلك خلايا في أكثر من منطق والتي تمتلك بنية القيادة والانضباط الكافي للقيام بتعطيل الشبكات. لكن الخلايا المستقلّة تحافظ على جهوزيّاتها للانخراط في تحرّكات انتهازيّة بعد القيام مسبقاً بدراسة مجموعة مختارة من الأهداف المحلّية والتكتيكات. لذلك حين يحصل مثلاً تحرّك كبير متزامن (سبّب مثلاً انقطاع الكهرباء)، الخلايا المستقلّة تستغلّ الفرصة للقيام بتحرّكاتها الخاصة خلال ساعات. بهذه الطريقة، الخلايا غير المرتبطة ببعضها بعضاً تنخرط في شيء يشبه الهجمات المتزامنة، ما يضاعف من فعاليّتها.

طبعاً، إن قامت المجموعات اللامركزية بهجمات متلاحقة في أعقاب التحرّكات الكبرى، الإعلام الخاضع للشركات قد يقوم بوقف بثّ أخبار الهجمات في محاولة لتجنّب التسبّب بالمزيد منها. لذلك هذه المقاربة لها حدود، رغم أن النتائج الواسعة لتحرّك ما كانقطاع التيار الكهربائي على نطاق وطني لا يمكن قمعها في الإعلام (وفي عمليّة تعطيل المنظومات لا يهمّ ما سبّب انقطاع التيار من الأساس لأنه يبقى فرصة للقيام بتحرّكات).

* * *

حين ننظر إلى بعض الصراعات أو الحروب في التاريخ، نستطيع أن نتعلّم عبر تحديد الأخطاء والنجاحات. هكذا يمكن أن نقيّم قرارات استراتيجيّة تم أخذها في الحرب العالمية الثانية على سبيل المثال أو أعمال كل من حاولوا التدخّل أو عدم التدخّل في المحارق التاريخيّة. ربّما سيكون من المفيد أن نتخيّل بعض المؤرّخين في المستقبل البعيد – على افتراض أن البشرية ستبقى – ينظرون إلى أحداث السيناريو الذي وصفناه هنا. إن افترضنا أنه كان ناجح بشكل عام، كيف يمكن لهم أن يحلّلوا نقاط قوّته وضعفه؟

بالنسبة لهؤلاء المؤرّخين، المرحلة الرابعة مثيرة للجدل، وهم يعلمون أنها كانت مثيرة للجدل في صفوف المقاومين أنفسهم في ذلك الوقت. حتى المقاومون الذي وافقوا على النشاطات المقاومة ضدّ البنية التحتيّة تردّدوا حين فكّروا بأعمال لها عواقب محتملة على المدنيّين. هذا ليس مفاجئاً، لأن أعضاء هذه المقاومة يحرّكهم احترام عميق واهتمام لكلّ الحياة. المشكلة هي طبعا، أن أعضاء المقاومة علموا أنهم إن فشلوا في إيقاف هذه الثقافة من تدمير الكوكب، سيكون هنالك عواقب أكثر فظاعة بكثير على الناس.

معضلة أخلاقيّة شبيهة واجهها الحلفاء مبكراً في الحرب العالميّة الثانية والتي ناقشها أريك ماركوسن ودايفيد كوبف في كتابهما “الهولوكست والقصف الاستراتيجي: الإبادة والحرب الشاملة في القرن العشرين”. ماركوسن وكوبف يكتبان أنه “في بداية الحرب العالمية الثانية، كانت سياسة القصف البريطانية حريصة بشكل كبير – حتى لدرجة تعريض سلامة الطيّارين للخطر الكبير. فقط الأهداف العسكرية الواضحة البعيدة عن المراكز السكّانية تمّت مهاجمتها، وبعض طواقم الطائرات طلب منها إنزال قنابلها في المياه حين لم تكون ظروف الطقس تسمح بالتعرّف على الأهداف. العديد من العناصر تم ذكرها لشرح هذه السياسة، منها رغبة بريطانيا بتجنّب استفزاز ألمانيا للتصعيد ضد أهداف غير عسكريّة في بريطانية باستعمال قوّتها الجوّية المتفوّقة آنذاك”.

عناصر أخرى شملت الاهتمام بالدعم الشعبي، والاعتبارات الأخلاقية في تجنّب الخسائر البشريّة، وممارسة “الحرب المزيّفة” (حرب معلنة على ألمانيا لكن من دون قتال كثير)، ووجود قوّة جوّية صغيرة تحتاج لوقت لبنائها. أوجه الشبه بين سياسة القصف البريطاني الأولى وبين أعمال المجموعات اليساريّة من الـ Weather Underground  (مجموعة في الولايات المتحدة في الستينات) وجبهة تحرير الأرض ELF  (التي قامت بآلاف أعمال التخريب ابتداءً من منتصف التسعينات من دون أذية أي شخص)، هي واضحة.

المشكلة مع تلك السياسة البريطانية أنها ببساطة لم تعمل. ألمانيا لم تظهر أي اعتبارات أخلاقية، والطيّارين البريطانيين كانوا يتعرّضون لمخاطر كبيرة لمهاجمة أهداف ذات أهميّة متدنّية. بحلول شهر شباط 1942، سياسة القصف البريطانيّة تغيّرت بشكل كامل. في الواقع، قيادة الطائرات بدأت باستهداف مدنيي العدو والمعنويّات المدنيّة وخاصة للعمّال الصناعيين – عبر تدمير المنازل حول المصانع المستهدفة لتشريد العمّال. بعض المخطّطين الاستراتيجيّين البريطانيين اعتقدوا بأن ذلك سيقضي على إرادة ألمانيا على القتال. في الواقع، بعض تلك الهجمات على المدنيين كان هدفها “معاقبة” الشعب الألماني لدعم هتلر، وبعض المخطّطين اعتقدوا أنه بعد عقاب كافٍ، الشعب سيقوم ليعزل هتلر وينقذ نفسه. طبعاً، تلك الخطة لم تعمل؛ هكذا خطط لا تنجح أبداً تقريباً.

إذاً كانت تلك إحدى المعضلات التي واجهها أعضاء المقاومة في هذا السيناريو الافتراضي؛ فيما تمقت المقاومة فكرة القيام بتحرّكات تؤثّر على المدنيين – حتى أكثر مما فعل البريطانيون خلال الحرب العالمية الثانية – كان من الواضح بالنسبة لها أنه في بلد صناعي المدنيون والدولة متشابكون لدرجة أن أي تأثير على أحدهما سيكون له وقع على الآخر.

المؤرّخون الآن يعتقدون بأن تردّد الحلفاء بالهجوم المبكر في الحرب العالمية قد يكون قد سبّب بسقوط ملايين القتلى الإضافيين من المدنيين. الفشل في إيقاف ألمانيا باكراً أطال مدّة النزاع الدموي. الجنرال ألفرد جودل، رئيس غرفة العمليّات لقيادة القوى المسلّحة الألمانية قال التالي خلال محاكمته في نورمبرغ: “لم ننهار في العالم 1939 فقط لأنه خلال الحملة البولندية (في الشرق)، الفرق الفرنسية البريطانية والفرنسيّة الـ 110 في الغرب تم إيقاف نشاطها بشكل تام من قبل الفرق الألمانية الـ 23”.

العديد من الاستراتيجيّين العسكريّين حذّروا من الإجراءات الجزئيّة حين تكون هنالك حاجة لحرب شاملة. في كتاب “الاستراتيجية الكبرى: المبادىء والتطبيق”، جون كولينز يجادل بأن الهجمات الخجولة قد تقوّي من إصرار العدوّ، لأنها تشكّل استفزازاً له لكنّها لا تسبّب ضرراً مادياً أو معنوياً ملموساً للمحتلّ. “تدمير إرادة العدوّ على القتال هي أكثر أهمية بكثير من تعطيل قدراته المادّية… الدراسات حول الأسباب والنتائج تؤكد بأن العنف الذي لا يقلّ عن التدمير الكامل قد يعظّم إرادة الشعب بدل أن يدمّرها”. نشير إلى أن كولنز قال ذلك في العام 1973 وقد قلّل من أهميّة البنية التحتية التكنولوجية الهجمات الحاسمة عليها (يقول مثلاً في كتابه بأن المعلوماتيّة والكمبيوترات هي “ذات أهمية محدودة”).

هنالك استراتيجيّات أخرى أعطت أهمّية للتدمير المادي على كسر إرادة القتال للخصم. روبرت أنطوني بايب يناقش المسألة في “القصف من أجل الانتصار”، الذي يحلّل فيه فعاليّة القصف الاستراتيجي في حروب مختلفة. نستطيع أن نتسائل في هذا السيناريو الافتراضي إذا ما كان المقاومون طبّقوا سيناريو بايب في تقييمهم لمنافع المرحلة الثالثة (التحرّكات الانتقائية ضد شبكات ومنظومات محدّدة) مقارنة مع المرحلة الرابعة (محاولة تدمير قدر المستطاع من البنية التحتيّة الصناعيّة).

بايب يقول تحديداً أن استهداف الاقتصاد بأكمله قد يكون أكثر فعاليّة من مهاجمة مصانع أو منشآت بعينها: “التعطيل الاستراتيجي يمكن أن ينهك استراتيجيات الحرب (للخصم)، إما عبر مهاجمة مصانع الأسلحة أو عبر تدمير القاعدة الصناعيّة ككل، التي بدورها تخفّض الانتاج العسكري. بين الاثنين، مهاجمة مصانع الأسلحة هي الاستراتيجية الأقل فعاليّة. بالنظر إلى قدرات الصيانة والإصلاح للاقتصادات الصناعيّة الحديثة، انتاج الحرب يمكن استبداله خلال بضعة أشهر. الانتاج يمكن أن يتم الحفاظ عليه على المدى القصير عبر استخدام الاحتياطات وعلى المدى المتوسّط عبر توفير وحسن اختيار العمليّات التصنيعيّة والموارد البديلة. إلى جانب التعديل الاقتصادي، الدول غالباً ما تقوم بتعديلات عقائديّة (على استراتيجيّة الحرب) أيضاً”.

هذا التحليل يصيب الهدف لكنّه أيضاً يظهر كيف أن الأهداف في هذا السياريو البديل تختلف عن أهداف القصف الاستراتيجي في النزاعات التاريخيّة. حملة قصف الحلفاء (وفي الحروب الأخرى التي تم فيها استخدام القصف الاستراتيجي)، القصف الاستراتيجي تزامن مع معارك برّية وجوّية وبحريّة تقليديّة. هدف خبراء القصف كان خنق امدادات العدوّ في ساحة المعركة، لكنه لم يهدف وحده لربح الحرب بل كان الهدف منه دعم القوّات التقليديّة في المعركة. الحالة في السيناريو الذي نصفه معكوسة: تحقيق انخفاض ملموس  في الانتاج الصناعي سيكون بحدّ ذاته انتصاراً كبيراً.

المؤّرخون في المستقبل قد يسألون: “لماذا لم يستهدفوا ببساطة أسوأ المعامل، أسوأ الصناعات، وتركوا بقيّة الاقتصاد؟”. المراحل المبكرة من الحرب الإيكولوجيّة الحاسمة كانت فيها استهداف لمصانع أو صناعات بعينها، لكن بعد ذلك، أدرك المقاومون أن الاقتصاد الصناعي المعاصر متشابك لدرجة أن أي شيء أقل من تعطيل اقتصادي كامل لن يكون لديه الأثر المطلوب على المدى البعيد.

هذه الخلاصة تعزّزها أيضاً التجارب التاريخية. بايب يستأنف بالقول أنه “حتى حين يتم تدمير عمليّة مهمّة لانتاج السلاح، التعديلات التكتيكيّة (للخصم) قد تسمح لقطاعات انتاج الأسلحة الأخرى بالتعويض عنها… كنتيجة، تفشل بشكل عام الجهود لإلغاء عنصر حاسم في الانتاج الحربي”. بايب يشرح مثلاً أن الحلفاء قاموا في الحرب العالمية الثانية بقصف مصانع محرّكات الطائرات الألمانيّة. لكن ذلك لم يكن عاملاً حاسماً في تحقيق التفوّق الجوّي، بل العامل الحاسم كان لأن سلاح الجوّ للحلفاء دمّر معظم الطائرات وقتل العديد من أفضل طيّاري ألمانيا.

مثال آخر هو قصف الحلفاء لمصانع رولمانات البلى (كراسي تحميل الكرات الفولاذية الضرورية لكل الآليات المتحرّكة). الحلفاء استطاعوا تخفيض الانتاج الألماني من الرولمانات بنحو 70 في المئة، لكن ذلك لم يؤدي إلى انخفاض مشابه في عدد الدبابات الألمانيّة. الألمان استطاعوا تعويض النقص عبر تصميم آليات فيها رولمانات أقل، كما زادوا من انتاج الأسلحة المضادة للدروع. في المراحل الأولى من الحرب، استطاع الألمان أن يعوّضوا تدمير المصانع جزئياً لأن العديد من المصانع كانت تعمل بمناوبة واحدة أي لم يكونوا يستغلّون كامل طاقتهم الانتاجيّة. وقد استطاعوا تعويض الانتاج عبر مضاعفة المناوبات للعمّال.

لذلك يعتبر بايب بأن اقتصادات الحرب لا تمتلك نقطة محدّدة تنهار من بعدها لأنها حين تواجه هجمات متزايدة، يمكنها أن تقوم بتعديلات كثيرة لتعويض النقص. “اقتصادات الحرب المعاصرة ليست هشّة. رغم أنه يمكن تدمير المصانع، يمكن للخصم أن يخفّف من الآثار عبر توزيع انتاج القطع المهمّة وتخزين المزيد من المواد الخام والآلات. المهاجمون لا يمكن أن يتوقوا كل التعديلات التي يمكن أن يقوم بها المدافعون، لأنهم غالباً ما يعتمدون في خططهم الهجوميّة على تحليل اقتصادات السلم، كما أن الاستخبارات حول كافة تفاصيل بنية الاقتصاد المستهدف هي دائماً غير مكتملة”. هذه حيطة في مكانها في وجه الثقة الزائدة، لكن المقاومين في هذا السيناريو يعلمون جيداً بأن هذه الحجّة لا تنطبق بالكامل على وضعهم لعدّة أسباب.

الخبراء العسكريّون الذين يدرسون تعطيل البنى الاقتصادية والصناعيّة مهتمّون عادة بانتاج المعدّات الحربيّة وتوزيعها على قوّات العدوّ. اقتصادات الحرب المعاصرة هي اقتصادات حرب شاملة حيث يتم تعبئة وتحريك كافة أطياف المجتمع للمشاركة في دعم الحرب. لذلك يستطيع الخبراء الحربيّون بالتأكيد تعويض النقص حيث يمكنهم إعادة توجيه المعدّات أو الحصص من الاستخدام المدني إلى الاستخدام العسكري، أو تجنيد مدنيّين واستخدام البنية التحتيّة المدنيّة لأهدافهم العسكريّة. ذلك لا يعني أن عمليّة الانتاج العامّة لن تتأثّر، لكن يعني أن الانتاج العسكري لن ينخفض بالدرجة التي قد يتوقّعها المرء بعد هكذا هجمات.

المقاومون في هذا السيناريو لديهم مقاربة مختلفة عن الخبراء العسكريين. لفهم الاختلاف، فلنتخيّل أنه هنالك خبير عسكري وراديكالي إيكولوجي يريدان تفجير خط أنابيب نفط يخدم منطقة صناعيّة كبرى. فلنقل أنه تم تدمير الأنبوب وتقليص امدادات الوقود بشكل كبير للمنطقة الصناعيّة. ولنقل أن المنطقة الصناعية ستتخذ العديد من الاجراءات في المقابل لتعويض النقص، مثل التوفير، إعادة الاستخدام، وزيادة الفعاليّة…ألخ. ولنقل أنها استطاعت مثلاً الاستمرار في انتاج عوازل البرّادات أو الثياب أو السلع الأخرى التي تنتجها بأعداد أقلّ وباستخدام وقود أقلّ. ولنقل أنها قامت أيضاً بتمديد متوسّط عمر البرّادات عبر إضافة كسوة إضافيّة أو إصلاحها. من وجهة نظر الخبير العسكري، هذا الهجوم كان فاشلاً – لأن تأثيره كان بسيطاً على التوافر المادّي للسلع المذكورة. لكن من وجهة نظر الإيكولوجي الراديكالي، هذا نصر لأنه تم تخفيض الضرر الإيكولوجي بأقل عدد ممكن من التأثيرات السلبيّة على المدنيين.

كما أن الاقتصادات المعاصرة بشكل عام هي هشّة. الاقتصادات العسكريّة تتحكّم بالموارد والانتاج عبر كل الوسائل الممكنة، ومن ضمنها طباعة أموال أو الاستيلاء على مصانع. إنها اقتصادات تقوم على الضرورة القصوى. الاقتصادات الصناعية في المقابل هي اقتصادات رفاه. هي تنتج غالباً أشياء لا يحتاجها الناس. الرأسمالية الصناعيّة تزدهر على خلق الرغبات بالدرجة نفسها التي تزدهر فيها من تصنيع السلع، فهي تبيع الناس قطع قمامة بلاستيكية، سيارات إضافية، وطعام سريع. حين تعاني الاقتصادات الرأسمالية من أزمات صعبة، كما في الكساد الكبير (في الثلاثينات من القرن العشرين)، أو كما في الأرجنتين منذ بضعة عقود، أو كما في العديد من الأماكن الأخرى، الناس تعود إلى الضرورات وغالباً ما تعود أيضاً إلى استخدام التبادل العيني وشبكات المساعدة المتبادلة.  الناس تعود في هذه الحالة إلى الاقتصادات المحلّية والمنزلية، وهذه الاقتصادات هي ثابتة ومنيعة أكثر بكثير من الرأسماليّة الصناعيّة، وحتى أكثر صلابة من اقتصادات الحرب.

إلى ذلك، بايب يطرح نقطة مهمّة حين يقول أن “العرقلة الاستراتيجية هي الأكثر فعاليّة حين تكون الهجمات موجّهة ضد الاقتصاد ككل. الخطّة الأكثر فعاليّة هي تدمير شبكة المواصلات التي تأتي بالمواد الخام والسلع الأساسية إلى مراكز التصنيع وتوزّع القطع المختلفة على الصناعات المختلفة. مهاجمة خطوط الإمداد الكهربائيّة الوطنيّة ليس فعّالاً لأن معظم المنشآت الصناعية عادة ما تمتلك توليدها الاحتياطي الخاص. مهاجمة محطات تكرير وتخزين النفط لتخفيض القدرة الاحتياطية لا يأخذ في عين الاعتبار قدرة الدول على تخفيض الاستهلاك عبر التوفير والتقنين”. تحليل بايب مهم ولكن من المهم فهمت الاختلافات بين أهدافه وبين أهداف الحرب الإكولوجيّة الحاسمة.

المقاومون في سيناريو الحرب الإيكولوجيّة الحاسمة لديهم هدف تخفيض الاستهلاك والنشاط الصناعي، لذلك لا يهم بالنسبة لهم ما إذا كانت المنشآت الصناعية تمتلك مولّدات كهربائيّة احتياطية أو ما إذا قامت الدولة بفرض التوفير والتقنين. فهم يؤمنون بأن إجبار المصانع على العمل بطاقة أقل في كلّ الأمة وتوفير الوقود هو نصر إيكولوجي مبين، ويذكرون أنه في كلّ تاريخ الحركة البيئية السائدة لم تستطع وقف النموّ في استهلاك الوقود الأحفوري، لذا تخفيضه بهذه الطريقة هو غير مسبوق.

 بغض النظر عمّا إذا كنّا نتحدّث عن سيناريو افتراضي بالكامل أو العالم الحقيقي الآن، تقدّم الذروة النفطيّة سيكون لديه آثار على أهمّية شبكات المواصلات. في بعض المناطق، أهمّية الواردات سترتفع كثيراً بسبب عوامل محلّية مثل نفاذ النفط المحلّي. في أماكن أخرى، تراجع التجارة الدولية وتقلّص النشاط الاقتصادي سيجعل من عمليّات الشحن أقل أهمّية. شبكات الطرقات العامة قد يتم استخدامها بشكل أقل بسبب ارتفاع أسعار الوقود وانخفاض التجارة. انخفاض السير سيتيح وجود قدرة احتياطية أكبر ويجعل من الطرقات أقل هشاشة تجاه التعطيل. من المرّجح أن تزيد أهمّية النقل عبر القطارات – الذي هو شكل فعّال جداً من النقل. إلى ذلك، في العديد من المناطق، لقد تم نزع العديد من سكك الحديد خلال فترة تمتدّ لعقود، والسكك المتبقيّة مزدحمة وقريبة من قدرتها القصوى.

بالعودة إلى السيناريو المستقبلي البديل: في معظم الحالات، شبكات النقل ليست أفضل الأهداف. النقل البرّي (وهو الآن الشكل الأهم للنقل في معظم البلدان) زائد بشكل كبير. حتى المناطق الريفية تمتلك شبكات غزيرة من طرق النقل، التي قد تكون أبطأ من الأوتوسترادات، لكنها تسمح بسلوك طرقات أخرى.

في المقابل، استهداف شبكات الطاقة له أولويّة أعلى بالنسبة لهم أن نتيجة تعطيلها هي أكبر. العديد من الشبكات الكهربائية تعمل بطاقتها القصوى، وتوسيعها مكلف. لقد أصبحت هذه الشبكات أكثر أهميّة كون وسائل الطاقة القابلة للنقل بسهولة مثل الوقود الأحفوري تم استبدالها جزئياً بوسائل أقل قابلية للنقل، وبالتحديد الكهرباء المولّدة من المصانع العاملة على الفحم أو المنشآت النووية، ولدرجة أقل بمنشآت الطاقة الهوائية والشمسيّة. هذا يعني أن الشبكات الكهربائيّة ستحمل في ذلك الوقت طاقة أكبر بكثير مما تحمل الآن، وتكوّن بالتأكيد نسبة أكبر من الطاقة المستهلكة. إلى ذلك، المقاومون علموا أن شبكات الطاقة غالباً ما تعتمد على بضعة جذوع إقليميّة كبرى هشّة أمام التعطيل.

* * *

هنالك حجّة أخيرة استعملها المقاومون في هذا السيناريو لتبرير استهداف الاقتصاد ككلّ بدل القيام بتحرّكات انتهازيّة أو جزئيّة: عامل المفاجأة. لقد علموا بأن التخريب المشتّت سيضحّي بعامل المفاجأة ويسمح لخصمهم بإعادة تنظيم نفسه وتطوير طرق للتعامل مع الهجمات المستقبليّة. لقد علموا أيضاً بأن تلك الطرق ستكون أحياناً مرغوبة بالنسبة للمقاومة (مثل استخدام مصادر محلّية للطاقة أقل تلويثاً)، وأحياناً غير مرغوبة (مثل نشر سريع لفرق الصيانة، والمراقبة الجوّية عبر طائرات من دون طيّار، فرض القانون العرفي…ألخ). المقاومون علموا أنهم سيعوّضون كشف بعض تكتيكاتهم عبر القيام بسلسلة من العمليّات المفاجأة الحاسمة ضمن إطار صراع تصاعدي أوسع.

على الجهة الأخرى، المقاومون يفهمون في هذا السيناريو أن الحرب الإيكولوجية الحاسمة تقوم على تكتيكات تقنية وتكنولوجية مناسبة بسيطة نسبياً (للحركات العلنية والسرّية). وهي تعتمد على مجموعات صغيرة بسيطة وغير معقّدة. لم يكن هنالك الكثير من المعلومات التكتيكية السرّية ليتم كشفها. في الواقع، تصعيد التحرّكات بتكتيكات مباشرة كان مفيداً لحركتهم المقاومة. المحلّل جون روب ناقش هذه النقطة في دراسته لحركات مقاومة في بلدان مثل العراق. معظم تكتيكات المقاومة ليست معقّدة، لكن مجموعات المقاومة تستطيع التعلّم بشكل دائم من النجاحات والإخفاقات في “بازار” التمرّد. الخلايا اللامركزية تستطيع أن ترى نجاح الخلايا الأخرى التي لا تملك معها قنوات تواصل مباشرة، ولأن التكتيكات هي بسيطة نسبياً، تستطيع أن تقلّد التكتيكات الناجحة وتكييفها بحسب مواردها وظروفها بسرعة. بهذه الطريقة، التكتيكات الناجحة تنتشر بسرعة للمجموعات الجديدة، حتى في ظلّ محدوديّة التواصل فيما بينها.

المؤرّخون الافتراضيّون لهذا السيناريو قد يشيروا إلى موطن ضعف محتمل آخر في الحرب الإيكولوجيّة الحاسمة: أنها استوجبت انخراط الكثير من الناس في تكتيكات فيها مخاطرة، وأن منظّمات المقاومة لم تمتلك الأعداد والقدرة اللوجستية المطلوبة لصراع مطوّل. هذا القلق في مكانه، ولقد تمّ التعامل معه عبر تطوير شبكات دعم فعّالة بشكل مبكر. طبعاً، الخيارات الاستراتيجية الأخرى – مثل العمل على إنشاء حركة جماهيرية من أيّ نوع – يتطلّب ناس أكثر وشبكات دعم أكبر منخرطة في المقاومة. العديد من شبكات المقاومة عملت على ميزانيات صغيرة، ورغم أنها احتاجت لمعدّات متخصّصة، لكنّها استوجبت موارد أقل بشكل عام من أي حركة جماهيريّة.

* * *

باستئناف السيناريو أبعد بعد، المؤرخون قد يسألوا: هل تلاقي الحرب الإكولوجية الحاسمة المعايير الاستراتيجيّة التي حدّدناها في “مقدّمة إلى الاستراتيجية” (في الفصل 12 من الكتاب، صفحة 385).

الهدف: هذه الاستراتيجية لديها هدف واضح، محدّد، وقابل للتحقيق.

قابليّة التنفيذ: هذه الاستراتيجية لديها طريق واضح من النقطة أ إلى ب من السياق الحالي وصولاً إلى الهدف المنشود، بالإضافة إلى الأخذ في عين الاعتبار القدرة على التعامل مع الانتكاسات والهزائم. العديد اعتقدوا أنها استراتيجية متماسكة وقابلة للتحقيق أكثر من أي استراتيجية أخرى تم اقتراحها عليهم بهذا الخصوص.

الحدود على الموارد: كم من الناس يستوجبها وجود حركة مقاومة جدّية وفعّالة؟ هل نستطيع أن نضع عدداً متوسطاً عبر دراسة حركات المقاومة التاريخيّة من كل الأنواع؟

  • المقاومة الفرنسيّة. نسبة النجاح: متوسّطة. كما أشرنا في فصل “سيكولوجيّة المقاومة”، المقاومة الفرنسية كانت تتألف على الأكثر من واحد في المئة من السكّان البالغين، أو نحو 200 ألف شخص. الحكومة الفرنسية بعد الحرب اعترفت رسمياً بـ 220 ألف شخص (رغم أن أحد المؤرّخين يقدّر أن عدد المقاومين قد يكون 400 ألف). بالإضافة إلى المقاومين المباشرين، كان هنالك ربّما 300 ألف شخص آخر منخرط بطريقة غير مباشرة. إن شملت كل الناس التي كانت مستعدّة للمخاطرة بقراءة صحف المقاومة السرّية، عدد المتعاطفين ينمو إلى نحو 10 في المئة من السكّان، أو مليوني شخص. عدد سكّان فرنسا في عام 1940 كان أربعين مليون، لذلك كانت نسبة المقاومين شخصاً واحداً من كل 200.
  • الجيش الجمهوري الإيرلندي. نسبة النجاح: نجاح المقاومة. في ذروة المقاومة الإيرلندية للحكم البريطاني، حرب الاستقلال الإيرلندية (التي بُنيت على 700 عام من ثقافة المقاومة)، الجيش الجمهوري الإيرلندي كان لديه 100 ألف عضو (أو أكثر بقليل من 2 في المئة من سكّان يبلغ عددهم 4.5 مليون). 15 ألف من هؤلاء شاركوا في حرب العصابات، و3000 منهم كانوا مقاتلين متفرّغين. المقاومون الأكثر فعالية وحسماً كانوا جزءً من مجموعة “الرسل الـ 12″، وهم عدد صغير من الناس استطاعوا تغيير مسار الحرب. عدد سكّان انكلترا المحتلّة في ذلك الوقت كان نحو 25 مليون، بالإضافة إلى 7.5 في اسكتلندا وويلز. بذلك، المقاومة الإيرلنديّة تضمّنت شخصاً واحداً بين كل 40 شخص إيرلندي، وشخصاً واحداً من كل 365 شخص في المملكة المتحدة. نسبة الرسل الـ12 كانوا شخصاً من بين كل 300 ألف من الإيرلنديين.
  • المقاومة العراقيّة ضد الاحتلال. نسبة النجاح: نجاح غير حاسم. كم يوجد متمرّد في العراق؟ التقديرات تتراوح وهي غالباً ما تكون نابعة من دوافع سياسيّة أو لإظهار نجاح الاحتلال أو لتبرير المزيد من التصعيد العسكري. الجيش الأميركي قدّر في العام 2006 وجود ما بين 8000 إلى 20 ألف مقاوم. الاستخبارات العراقيّة تقدّر الرقم بأعلى من ذلك. عدد السكّان هو 31 مليون، في مساحة تبلغ نحو 438 ألف كيلموتر مربّع. إن كان هنالك 20 ألف مقاوم، فهذا يعني أنه يوجد مقاوم واحد بين كلّ 1550 شخص.
  •  الكونغرس الوطني الأفريقي (جنوب أفريقيا): نسبة النجاح: ناجح. كم كان هنالك عضو في الكونغرس الوطني؟ في العام 1979، الآندرغراوند السياسي كان مشكّل من 300 – 500 شخص، متواجدون في المراكز المدينيّة الكبرى. عدّد سكان أفريقيا الجنوبية في ذلك الوقت كان نحو 28 مليون، لكن الاحصاءات من تلك الفترة غير دقيقة بسبب سياسة عدم التعاون (من السكّان السود مع السلطات البيضاء). هذا يعني أن عدد الأعضاء في الكونغرس الوطني في العام 1979 كان واحداً من بين كل 56 ألف شخص.
  • منظّمة The Weather Underground. نسبة النجاح: غير ناجحة. في الأساس بضعة مئات من الأعضاء، تقلّصت أعدادهم مع الوقت. في العام 1970 عدد السكّان في الولايات المتّحدة كان 179 مليون، وبذلك كان أعضاء المنظمة يشكّلون واحداً من بين كلّ مليون.
  • منظّمة النمور السود (في الولايات المتحدة). نسبة النجاح: نجاح غير حاسم. ذروة العضوية كان في آواخر الستينات بأكثر من 2000 عضو في عدّة مدن. أي واحد من بين كل 100 ألف أميركي.
  •  التحالف الفيتنامي الشيوعي الشمالي الفييت-كونغ خلال الحرب الهندو-صينيّة الثانية. نسبة النجاح: ناجح. تشكّل التحالف من نحو نصف مليون مقاتل في العام 1968، مقابل 1.2 مليون مقاتل مناهض للشيوعيّة. بعض الاحصاءات تقدّر حجم جيش الفييت-كونغ بمليون في العام 1964. من الصعب استخلاص صورة واضحة للعدد الاجماعلي للمقاتلين وغير المقاتلين بسبب الدعم اللوجستي الواسع الذي كانوا يحصلون عليه في العديد من المناطق. عدد السكّان في شمال وجنوب فييتنام في آواخر الستينات كان نحو 40 مليون، أي أنه كان هنالك مقاتل مع الشيوعيين من بين كل 80 شخص فييتنامي.
  • الثوّار الإسبان في الحرب الأهلية الإسبانية. نسبة النجاح: نجاح وفشل في الوقت نفسه. الكونفيدرالية الوطنية للعمّال (CNT) في إسبانيا كان لديها نحو ثلاثة ملايين عضو في ذروتها. قوّة كبرى داخل هذه الحركة كانت الفيدرالية الأنركيّة الإيبيريّة FAI  المشكّلة من تحالف واسع من المجموعات. الفيدرالية الأنركية الإيبيريّة كان لديها ما بين 5000 و30 ألف عضو قبل الثورة، وقد زاد هذا العدد بشكل كبير حين اندلعت الحرب. الـ CNT  والـ FAI نجحوا في إيقاد ثورة في جزء من إسبانيا، لكن تمّت هزيمتهم لاحقاً على المستوى الوطني من قبل الفاشيّين. عدد السكّان آنذاك كان 26 مليون، أي واحد من كل تسعة إسبان كان عضواً في CNT، وواحد من كل 870 إسباني كان عضواً في FAI.
  • مقاومة الضرائب في وجه (رئيسة الوزراء البريطانية) مارغريت تاتشر في التسعينات. نسبة النجاح: ناجحة. تم تعبئة نحو 40 مليون شخص، أي واحد من كل أربعة أشخاص لبلد يبلغ عدد سكانه 57 مليون (رغم أن معظم الناس شاركت عبر رفض دفع ضريبة جديدة).
  • الحملة البريطانية المنادية بحقّ المرأة بالاقتراع. من الصعب إيجاد أعداد دقيقة لكل المشاركين وقتها، لكن كان هنالك نحو 600 منظّمة نسائية داعمة لحقّ الاقتراع. كان هنالك أيضاً منظّمات راديكالية ذهب نحو ألف من صفوفها إلى السجن. الراديكاليون ساعدوا كل المجموعات الداعمة لحق الاقتراع بالحصول على دعم شعبي كبير، وبالنظر إلى عدد سكان بريطانيا في ذلك الوقت، الراديكاليون شكّلوا ربّما واحدة من كل 15 ألف امرأة، كما كان هنالك منظّمة نسائية داعمة لحقّ الاقتراع لكل 25 ألف امرأة.
  • انتفاضة سيبيبور (مخيّم إبادة أقامه الجيش الألماني في الحرب العالمية الثانية ووضع فيه بشكل أساسي اليهود من ألمانيا وأوروبا الشرقية). نسبة النجاح: ناجحة. كان هنالك أقل من دزينة من المنظّمين والمتآمرين، معظم الناس هربوا من المخيّم حين تم إلغاءه فيما بعد. حتى تلك النقطة، كان قد تم قتل نحو ربع مليون شخص في المخيّم. المنظّمون شكّلوا شخصاً من بين كل 60 من الأسرى اليهود في المخيم في ذلك الوقت، وربّما واحداً من بين كل 25 ألف من الذين مرّوا بالمخيّم في طريقهم إلى الموت.

 * * *

من الواضح أن مجموعة صغيرة من الناس الملتزمين، الأذكياء، والشجعان يمكن أن يكونوا فعّالين جداً، حتى وإن كان عددهم واحداً بالألف، أو واحداً من كل عشرة آلاف، أو حتى واحداً من كل 100 ألف. لكنهم فعّالون بسبب قدرتهم على تحريك قوى أكبر، سواء أكانت تلك القوى حركات اجتماعيّة (ربّما عبر حملات عدم التعاون كما في حالة مقاومة الضرائب)، أو مناطق صناعيّة ضعيفة.

إلى ذلك، من الواضح أنه إن تم الحفاظ على المجموعة الأساسيّة، من الممكن لها أن توسّع نفسها وتنتصر في نهاية المطاف.

بعض المؤرّخين المستقبليّين الذين يناقشون هذا السيناريو قد يعلّقوا بالقول أن الحرب الإيكولوجيّة الحاسمة كانت مصمّمة للاستفادة القصوى من الأعداد الصغيرة، بدل الافتراض بأن أعداد كبيرة من الناس ستظهر للقيام بتحرّكات في الوقت المناسب. لو توافر هنالك المزيد من الناس، الاستراتيجية ستصبح فعّالة أكثر. إلى ذلك، قد يعلّقون أيضاً بالقول أن هذه الاستراتيجية حاولت تعبئة الناس من مختلف الخلفيّات وبطرق كانت مناسبة لهم؛ فهي لم تعتمد حصراً على المقاومين أو على المقاربات الرمزيّة (التي كانت ستجلب الانتقادات والسخرية بسبب فشلها في تحقيق نتائج).

 *

التكتيكات: التكتيكات المطلوب للحرب الإيكولوجيّة الحاسمة هي نسبياً بسيطة وقابلة للتنفيذ والعديد منها ذات مخاطرة منخفضة. هي مناسبة لحجم وجدّية المشكلة والهدف. قبل بداية الحرب الإيكولوجيّة الحاسمة، لم يتم تنفيذ التكتيكات المطلوبة بسبب نقص في الاستراتيجيّة والتطوّر المنظّم للحركات العلنية والسرّية على السواء. لكن لم يكن من الصعب تطوير تلك الاستراتيجية والانواع من التنظيم – العقبات الأساسية كانت أيدولوجيّة.

 *

المخاطرة: عند تقييم المخاطر، أعضاء المقاومة والمؤرّخون المستقبليّون أخذوا في عين الاعتبار مخاطر التحرّك ومخاطر عدم التحرّك على السواء: مخاطر تنفيذ أي استراتيجية ومخاطر عدم تنفيذها على الإطلاق. في حالتهم، الفشل بتنفيذ استراتيجيّة فعّالة (أو الفشل في التحرّك بشكل عام) كان يمكن أن يؤدّي موت مليارات البشر وعدد غير محدود من المخلوقات غير البشريّة. كان هنالك مخاطر كبيرة تحيط بالقيام بتحرّكات حاسمة، مخاطر دفعت العديد من الناس إلى البقاء في أساليب رمزيّة من النشاط. لكن مخاطر عدم التحرّك على الإطلاق كانت أعظم بكثير وأكثر خطورة وذات مدى أبعد (على الإنسان والأرض).

 *

التوقيت: حين تنفيذها بشكل صحيح، الحرب الإيكولوجيّة الحاسمة تستطيع تحقيق هدفها خلال فترة زمنيّة مناسبة وبتراتبيّة منطقيّة. في ظلّ الحرب الإيكولوجيّة الحاسمة، التحرّكات الحاسمة يتم تصعيدها بأسرع ما تتيحه البنية التحتيّة الداعمة للمقاومة. نقطة اللاعودة في أزمة التغيّر المناخي غير واضحة، لذلك إن كان المؤرّخون أو أي أحد آخر أحياء في المستقبل، فذلك يعني أن الحرب الإيكولوجيّة الحاسمة واجراءات أخرى استطاعت الحؤول دون ذلك المستوى من الكارثة المناخيّة. معظم اقتراحات العمل (لمواجهة الأزمة الإيكولوجيّة) لم تهدف حتى للقيام بذلك.

 *

البساطة والتماسك: رغماً عن أنه كان هنالك قدر معيّن من السياق والمعرفة التي كان يجب الحصول عليها لتنفيذ هذه الاستراتيجيّة، في صلبها، هي استراتيجية بسيطة ومتماسكة. كانت متماسكة كفاية للتعامل مع أحداث غير متوقّعة، وكان من الممكن شرحها بتعابير بسيطة وواضحة من دون تعقيد. الاستراتيجية كانت قابلة على التكيّف كفاية لتطبيقها في مختلف السياقات المحلّية.

 *

العواقب: التحرّك وعدم التحرّك كلاهما لهما عواقب وخيمة. أي انهيار حقيقي – الذي قد يتضمّن معاناة بشرية واسعة النطاق – كان مرعباً لكثيرين. المقاومون في هذا السيناريو البديل آمنوا أولاً وقبل كل شيء أنه لا يمكن تجنّب نتيجة مرعبة (لأن الانهيار الإيكولوجي والمناخي والاقتصادي جارٍ على قدم وساق ويقترب من مرحلته النهائية)، وأنه يمكنهم تحقيق تغييرات حقيقية وإيجابيّة في عمليّة تطوّر الأحداث.

* * *

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *