السناريوهات المحتملة

الحرب الإيكولوجية الحاسمة  Desicive Ecological Warfare

بقلم أريك ماك باي

 *

الفصل 14 من كتاب “المقاومة الخضراء العميقة: استراتيجيّة لإنقاذ الكوكب”.

 *

السقوط: سيناريوهات الانهيار

في هذه المرحلة من التاريخ، لا يوجد نتائج جيّدة على المدى القصير بالنسبة للمجتمع البشري. بعض النتائج أفضل، وبعضها أسوأ، وعلى المدى الطويل، بعضها جيّد جداً، لكن على المدى القصير نحن في مأزق. لن أكذب عليكم، فات الآوان على التشجيع والهتافات. الطريقة الوحيدة لمعرفة النتيجة الأفضل هي مواجهة واقعنا المزري بشكل مباشر، وعدم الالتهاء بآمال زائفة.

المجتمع البشري – بسبب الحضارة تحديداً – حاصر نفسه في زاوية. كجنس بشري، نحن حالياً معتمدون على استهلاك موارد محدودة من النفط، التراب، والمياه. الزراعة الصناعية (وزراعة الحبوب السنوية قبلها) وضعتنا في نمط مدمّر من النموّ والزيادة السكانية بما يتجاوز قدرة الأرض على إعالتنا. لقد تجاوزنا قدرة الأرض على إعالتنا منذ فترة طويلة، وآليات عمل الحضارة تقوم في كل لحظة بتدمير تلك القدرة أكثر وأكثر. هذا الوضع هو مسؤولية من هم في مراكز القوّة إلى حدّ كبير، الأغنى، الدول والشركات. لكن العواقب – ومسؤولية التعامل مع هذا الوضع – تقع علينا جميعاً، ومعنا المخلوقات الأخرى.

 على المستوى المادّي، لم يفت الأوان بعد من أجل برنامج طارىء لتحديد الولادات بهدف خفض عدد السكّان، تقليص استهلاك الوقود إلى الصفر، استبدال الزراعة الأحاديّة بالزراعة المتنوّعة القديمة، وضع حدّ للإفراط في صيد الأسماك، وقف التوسّع الصناعي (أو تدمير) ما تبقّى من مناطق برّية. لا يوجد سبب مادّي يمنعنا من بدء كل هذه الأمور غداً، ووقف مسار الاحترار العالمي، وعكس النموّ الزائد، عكس تآكل التربة، وعكس نفاذ المياه الجوفيّة، وإعادة التوازن لكلّ الفصائل الحيّة والمنظومات الإحيائيّة المهدّدة حالياً بالزوال. لا يوجد سبب مادّي يمنعنا من أن نضع يداً بيد والتصرّف كراشدين وإصلاح كل هذه المشاكل، بمعنى أن كل ذلك ممكن علمياً ولا يخرق قوانين الفيزياء.

لكن من الناحية الاجتماعيّة والسياسيّة، نحن نعلم بأن هذا مجرّد حلم مستحيل. يوجد بُنى مادّية للسلطة تجعل من ذلك مستحيلاً طالما أنّ تلك البنى لا تزال في مكانها. أولئك الذين في السلطة يحصلون على الكثير من الأموال والسلطة من خلال تدمير الكوكب. لا يمكننا أن ننقذ الكوكب – أو مستقبلنا نحن كجنس حيّ – من دون معركة.

ما هو الطرح الواقعي هنا؟ ما هي الخيارات المتاحة لنا، وما هي العواقب؟

ما يلي هو عرض لثلاث سيناريوهات توضيحيّة: في أحدها لا يوجد أي مقاومة تُذكر، وفي أحدها يوجد مقاومة محدودة وانهيار مطوّل نسبياً، وفي الثالثة هنالك مقاومة شاملة تقود إلى انهيار سريع للحضارة والبنية التحتية الصناعيّة العالميّة.

 * * *

سيناريو اللامقاومة

إن لم يكن هنالك مقاومة حقيقيّة، الأرجح أن يكون هنالك بضعة سنوات أخرى من الأعمال كالمعتاد، رغم تصاعد الأزمات والاضطرابات الاقتصادية. وفقاً لأفضل المعطيات الموجودة، آثار الذروة النفطية ستبدأ بإلقاء ثقلها بين عامي 2011 و2015، ما سيؤدي إلى تراجع سريع في توافر الطاقة في العالم. من الممكن أن يحدث ذلك في فترة متأخرة أكثر من تلك التي نقترحها، إن نجحت كل الجهود الموجّهة لاستخراج ما تبقّى من الوقود الأحفوري، لكن ذلك سيؤخّر المحتوم فقط، سيزيد من خطورة الاحترار العالمي، ويجعل الانحدار النهائي أقسى وأكثر حدّة. حين تتفاقم أزمة الذروة النفطية، الكلفة المتصاعدة والإمدادات المتناقصة للطاقة ستقوّض عمليّات التصنيع والنقل، خاصة على المستوى العالمي.

الانزلاق الطاقوي سيسبّب فوضى اقتصاديّة، وسندخل في دورة دائمة من الانكماش الاقتصادي. الشركات ستكون غير قادرة على دفع أجور العمّال، العمّال سيكونوا غير قادرين على شراء الأشياء، والمزيد من الشركات ستتقلّص أو تُفلس (ولن تدفع بالتالي لعمّالها). في ظلّ عجز كافة المؤسسات عن سداد ديونها وقروضها، أصحاب المنازل، الشركات، وحتى الدول ستفلس (من المحتمل أن هذه العمليّة قد بدأت منذ اليوم). التجارة العالمية ستتراجع بشدّة بسبب كساد عالمي وتضاعف أكلاف النقل والتصنيع. رغم أنه من المرجّح أن أسعار النفط ستستمرّ بالارتفاع مع الوقت، إلا أنه سيكون هنالك أوقات يسبّب فيها الاقتصاد المنكمش تراجع الطلب على النفط، وبالتالي كبح الأسعار. من المفارقات المثيرة للسخرية لكن المفيدة، أن الانخفاض الجزئي لسعر النفط قد يقيّد الاستثمار في بنى تحتيّة جديدة لانتاج النفط.

في البدء، الانهيار سيشبه ركوداً أو كساداً تقليدياً، والفقراء سيكونوا كالعادة أكثر المتضررين من ارتفاع أسعار الحاجيات الأساسية، وخاصة الكهرباء والتدفئة في المناطق الباردة. بعد بضعة سنوات، الحدود الماليّة ستصبح حدوداً فيزيائيّة: التصنيع على نطاق واسع الكثيف الاستهلاك للطاقة سيصبح لا غير مربح فحسب، بل مستحيل أيضاً.

النتيجة المباشرة لذلك هي انهيار الزراعة الصناعيّة. الزراعة الصناعية العالميّة التي تعتمد على كمّيات هائلة من الطاقة لتغذية الجرارات، المبيدات والأسمدة المصنّعة، الريّ، المشاتل، والتوضيب والنقل، ستواجه حدوداً قاسية على الانتاج (التي سيسبّبها في البدء التنافس على مصادر الطاقة من قبل قطاعات أخرى في الاقتصاد). مشكلة نضوب المياه العذبة والجوفيّة، التاريخ الطويل من تآكل التربة، والمراحل المبكرة من التغيّر المناخي ستزيد من كل ذلك سوءاً. في البدء، سيسبب ذلك أزمة غذاء وأزمة اقتصادي سيشعر بثقلها بشكل أساسي الفقراء. مع الوقت، الوضع سيصبح أكثر سوءاً والانتاج الصناعي للغذاء سينهار إلى مستويات أدنى من تلك المطلوبة لإطعام جميع السكّان.

سيكون هنالك ثلاث ردود أفعال رئيسيّة على أزمة الغذاء العالميّة هذه. في بعض المناطق، الناس ستعود إلى زرع طعامها الخاص وبناء مبادرات محلّية مستدامة لانتاج الغذاء. هذا سيكون علامة إيجابيّة، لكن الانخراط الشعبي في هذه المبادرات سيكون متأخراً وغير كافٍ، حيث أن معظم الناس في هذا الوقت لن يكونوا استوعبوا بعد نهائيّة الانهيار ولن يكونوا راغبين بزرع طعامهم الخاص. ستكون تلك المبادرات أيضاً أصعب بكثير في ظلّ التمدين الهائل الذي حصل في القرن الفائت، والتدمير الذي حصل للأرض، والتغيّر المناخي. إلى ذلك، معظم الثقافات المكتفية (للشعوب الأصليّة) قد تم تدميرها. انعدام المساواة فيما يتعلّق باستعمال الأراضي سيعيق الناس من زراعة طعامهم بنفسهم. من دون مقاومين منظّمين جيداً، إصلاحات الأراضي لن تحصل، والنازحين من أماكن أخرى لن يكون باستطاعتهم الوصول إلى الأرض والعمل بها. كنتيجة، سينتشر الجوع والمجاعة بشكل واسع، وسيصبح ذلك معضلة مزمنة في العديد من أنحاء العالم. النقص في الطاقة اللازمة للقيام الزراعة الصناعية سيؤدّي إلى عودة مؤسسات العبوديّة والرقّ.

العبودية لا تحصل في ظلّ فراغ سياسي. حين يحصل الانهيار الاقتصادي والطاقوي، بعض الحكومات ستسقط بشكل كامل، وتتحوّل إلى دول فاشلة. حينها، سينشأ أسياد الحرب أمراً واقعاً فوق الركام من دون وجود أحد لإيقافهم. بعض الحكومات الأخرى، التي تحاول جاهدة الحفاظ على سلطتها في وجه الاضطرابات السياسيّة والإنفصاليين، ستتحوّل إلى أشكال حكومية استبداديّة.  في عالم شحيح الموارد، الحكومات ستصبح أهزل وأكثر شراسة. سوف نرى صعوداً للاستبداديّة بأشكال جديدة: التكنو-فاشيّة وإقطاع الشركات. الأغنياء سيحاولون بشكل متزايد الانتقال إلى بؤر جغرافيّة خاصّة ومحميّة. أملاكهم العقارية لن تبدو كأنها خارجة من نهاية العالم، ستبدو بالعكس كجنّات بيئيّة مع حدائق عضوية جميلة وبحيرات خاصّة نظيفة ومحمّيات طبيعية. في بعض الحالات، ستكون هذه البؤر صغيرة، وفي حالات أخرى قد تكون بحجم بلدان بأكملها.

في هذا الوقت سيرى الفقراء أوضاعهم تتدهور. ملايين اللاجئين الذين خلقهم الانهيار الاقتصادي والطاقوي سيتحرّكون من مكان لآخر، ولن يريد أحد استقبالهم. في بعض المناطق الهشّة تدفّق اللاجئين سيبتلع الخدمات الأساسيّة ويؤدّي إلى انهيار محلّي، ما ينشأ عنه موجات إضافيّة من اللاجئين الهاربين من مراكز الانهيار والكارثة. في بعض المناطق، ستتم مواجهة اللاجئين بقوّة السلاح، وفي مناطق أخرى، العنصرّية والتمييز ستبرز بقوّة كذريعة للحكومات السلطويّة لوضع المهمّشين والمنشقّين في “مناطق خاصة”، ليتركوا المزيد من الموارد للأغنياء.

الفئات المهمّشة واليائسة ستكون المرشّح الوحيد للأعمال البدنيّة الشاقّة والقذرة الضرورية لاستمرار الانتاج الصناعي بعد ضمور إمدادات الطاقة. لذلك، أولئك الذين في السلطة سيعتبرون أن المجتمعات المستقلّة والمكتفية ذاتياً هي تهديد لمصادر اليد العاملة الرخيصة، وستحاول أن تقمعهم أو تدمّرهم.

رغم كلّ ذلك، التقدّم التكنولوجي لن يتوقّف. في الفترات الأولى، سيستمرّ بطريقة متقطّعة وغير منتظمة، لكن البشرية ستكون منقسمة بشكل متزايد إلى مجموعات مختلفة. الذين هم في الأسفل لن يكون بمقدورهم أن يسدّوا حاجاتهم الأساسية، فيما أولئك الذين في الأعلى سيحاولون عيش أسلوب حياة مترف كما كانوا يعيشون في الماضي، وسيرون حتّى العديد من التطوّرات التكنولوجيّة، التي سيهدف الكثير منها لتثبيت تفوّق الذين في السلطة في عالم يزداد اكتظاظاً وعدائيّة.

 التكنو-فاشيّين سيطوّرون ويحسّنون تكنولوجيّات السيطرة الاجتماعيّة (التي يجري تطويرها منذ الآن في مراحلها الأولى): طائرات من دون طيّار للمراقبة والاغتيال، تقنيّات الموجات المصغّرة للتحكم بالجموع، تصوير الأدمغة عبر الرنين المغنطيسي الذي يسمح بكشف الكذب بطريقة لا لبس فيها، وحتى تقنيّات لقراءة الأفكار والتعذيب. لن يكون هنالك مقاومة حقيقيّة في هذا السيناريو، لكن كل عام يمرّ سوف يجد التكنو-فاشيّون أنفسهم قادرون أكثر فأكثر على تدمير المقاومة في كافة أشكالها وصولاً إلى أصغر التعبيرات عن المقاومة. فيما يمرّ الوقت، فرصة إنشاء مقاومة حقيقية سوف تُغلق. التكنو-فاشيين في طليعة حتى منتصف القرن الحادي والعشرين سيمتلكون التكنولوجيا اللازمة للقمع والمراقبة بطريقة ستجعل أكثر ممارسات المخابرات التاريخيّة شدّة مثل “الستاتي” أو “الأس أس” بمثابة عمل هواة. قدرتهم على إذلال البشرية سوف تجعل من أسلافهم يبدون كأنهم كانوا ملائكة.

لن تأخذ كل الحكومات هذه الخيارات، لكن الحكومات الاستبداديّة – تلك التي ستستمرّ باستغلال الناس والموارد من دون رحمة ومن دون أي اعتبار للعواق – ستكتسب المزيد والمزيد من السطوة والعضلات، وستأخذ الموارد من جيرانها ومن الدول الفاشلة حولها كما تشاء. لن يكون هنالك أحد لإيقافها. لن يهم حينها إن كنت أكثر قرية مستدامة وصديقة للبيئة على وجه الكوكب إن كنت تعيش إلى جانب دولة فاشية متعطّشة أبداً للموارد.

في هذه الأثناء، فيما تتعطّش القوى الصناعية أكثر للطاقة، سيتم التخلّي عمّا تبقّى من قوانين ومعايير بيئيّة هشّة. أسوأ ما يمكن تخيّله من ممارسات، مثل التنقيب عن النفط في البحار واستغلال موارد المحمّيات البرّية وإزالة الجبال من أجل الحصول على الفحم ستصبح ممارسات مألوفة. هذا سيسحب ما تبقّى من مصادر الطاقة القديمة. المزيد من التنقيب سيطيل عمر الحضارة الصناعية لبضعة أشهر أو سنوات فقط، لكن الضرر الإيكولوجي سيكون طويل الأمد أو دائم (كما يحصل الآن في المحمّية البرّية في القطب الشمالي التي فتحتها حكومة الولايات المتحدة للتنقيب عن النفط). وبما أنه في هذا السيناريو الذي نتحدّث عنه لن يكون هنالك من مقاومة حقيقيّة، كل ذلك سيحدث من دون عرقلة.

سيكون هنالك أيضاً استثمارات جديدة في الطاقة المتجدّدة الصناعية، لكنها ستكون هزيلة وستعرقلها التحدّيات الاقتصاديّة، إفلاس الحكومات، وضمور الموازنات. إلى ذلك، خطوط إمداد الكهرباء الطويلة ستكون غير كافية ومتداعية بسبب طول عمرها. استبدال وترقية هذه الخطوط سيكون صعباً ومكلفاً. كنتيجة، وحتى حين يتم إنشاؤها، انتاج الطاقة من المصادر المتجدّدة سيساهم فقط بجزء صغير من الطاقة المنتجة عبر البترول. الطاقة الكهربائية تلك لن تكون صالحة لتشغيل غالبيّة الجرارات، الشاحنات، والآليات والبنى التحتية الثقيلة المشابهة.

كنتيجة، الطاقة البديلة سيكون لديها تأثير طفيف جداً في كبح الانهيار الطاقوي. في الواقع، سنحتاج لسنوات لاسترداد الطاقة التي ستُصرف على البُنى التحتيّة الجديدة. الترقيات الكبرى على البنى التحتيّة ستساهم في الواقع بجعل الانهيار الطاقوي أكثر حدّة بحيث أنها ستقلّص مستويات الطاقة المتاحة للأمور اليوميّة الأخرى. سيكون هنالك صراع مستمرّ حول كيفيّة توزيع الموارد المحدودة من الطاقة في ظلّ الأزمات المتتابعة. سيكون هنالك بعض التقنين لتفادي الشغب، لكن معظم الطاقة (بغض النظر عن مصدرها) ستذهب للحكومات، الجيش، الشركات، والأغنياء.

القيود الطاقوية ستجعل من المستحيل حتى التفكير بإنشاء بنى تحتية شاملة جديدة مثل اقتصاد الهيدروجين (الذي لن يحلّ المشكلة في جميع الأحوال). الوقود الحيوي سينطلق في العديد من المناطق، رغم واقع أن عائده الطاقوي منخفض جداً. العائد الطاقوي سيكون أفضل في الدول الاستوائية، لذا ستتعرّض الغابات الاستوائية المتبقيّة للقطع على نطاق واسع من أجل إفساح المجال لزراعة محاصيل الوقود الحيوي (وغالباً سيتم قطع الغابات على نطاق واسع من أجل استهلاك الحطب بشكل مباشر كوقود). الآليات الثقيلة ستكون مكلفة جداً للعديد من المزارع، لذلك ستأتي يدهم العاملة على شكل العبودية والرقّ في ظلّ حكومات استبداديّة وإقطاع الشركات الكبرى (العبودية تُستعمل حالياً في البرازيل في عمليّة قطع الغابات وإنتاج الفحم لبيعه لصناعة الفولاذ). الآثار العالميّة لانتاج الوقود الحيوي ستؤدي إلى ارتفاع أسعار الغذاء، تضاعف استهلاك المياه للريّ والزراعة، وتفاقم تآكل التربة. في كلّ الأحوال، انتاج سيساهم في نسبة صغيرة جداً من الوقود السائل المتاح في ذروة الحضارة.

كل ذلك سيؤدي إلى عواقب إيكولوجيّة فوريّة. المحطيات، التي يعصف فيها الاصطياد الزائد للأسماك (للتعويض عن نقص الغذاء)، والاحترار الناتج عن زيادة نسبة الحموضة وموت الأحواض المرجانيّة، ستصبح إلى حدّ كبيرة، ميتة. توسّع انتاج الوقود الحيوي سيدمّر العديد من المناطق البرّية والتنوقّع البيولوجي العالمي سينهار. الغابات الاستوائية مثل الأمازون تنتج المناخ الرطب الذي تحتاجه عبر تعرّقها الخاص، لكن توسّع عمليات القطع والزراعة سيخفّض عملية التعرّق ويقلب التوازن باتجاه الجفاف الدائم. وحتى في المناطق التي لم تُقطع فيها الغابة، المناخ المحلّي المتحوّل إلى مناخ جاف سيكون كافياً لقتلها. الأمازون ستتحوّل إلى صحراء، وباقي الغابات الاستوائية ستلحقها.

التوقّعات قد تختلف قليلاً من مصدر لآخر، لكن من المؤكد أنه سيتم استخراج معظم الوقود الأحفوري المتبقّي وحرقه، والاحترار العالمي سيصبح ظاهرة كارثيّة تغذّي نفسها بنفسها.  في كلّ الأحوال، لن يتم لمس أسوأ آثار ذلك إلا بعد عقود من الآن، حين يكون معظم الوقود الاحفوري قد استنفذ. بحلول ذلك الوقت، سيكون قد تبقى القليل جداً من الطاقة أو من القدرة الصناعية للبشر لمحاولة مواجهة أو التعويض عن نتائج التغيّر المناخي.

في كلّ الأحوال، فيما تحلّ الآثار العنيفة للتغيّر المناخي علينا، المعالجة البيئيّة عبر استخدام الزارعة المتنوّعة العضوية القديمة وإعادة التشجير ستصبح تقريباً مستحيلة. الحرّ والجفاف سيحوّل الغابات إلى مصادر لانبعاثات الكربون، وستموت الغابات الشماليّة من الحرّ، الآفات والمرض، ثم ستحترق في حرائق تمتدّ على قارات بأكملها بما يجعل حرائق بداية القرن الواحد والعشرين تبدو كأنها صغيرة. وحتى المراعي العذراء لن تعيش الحرارة المتطرّفة فيما سيكون الكربون يشوي حرفياً ما تبقّى من التربة الزراعيّة.

الحروب على الموارد بين الدول النووية ستندلع. الحرب بين الولايات المتحدّة وروسيا هي أقلّ احتمالاً مقارنة مع الحرب الباردة، لكن القوى العظمى الصاعدة كالصين ستريد حصتها من جبنة الموارد الدوليّة. القوى النووية مثل الهند وباكستان ستكون مكتظّة وهشّة بيئياً؛ التغيّر المناخي سيجفّف الأنهار الكبرى التي أطعت سابقاً الملايين، ومئات الملايين من الناس في آسيا الجنوبية سيعيشون على بعد أمتار فقط فوق سطح البحر. في ظلّ وجود القليل من الموارد لتهجيز وإطلاق جيش أو قوّة طيران ممكننة، الضربات النووية قد تبدو ردّاً فعّالاً جداً بالنسبة لدول يائسة.

إن تم تصعيد الحروب على الموارد إلى حروب نووية، ستكون آثارها شديدة، حتى في حالة حرب نووية “صغرى” بين بلدان مثل الهند وباكستان. حتى وإن استخدم كلّ بلد خمسون قنبلة نووية فقط بحجم القنبلة التي ألقيت على هيروشيما، سيؤدي ذلك إلى حدوث شتاء نووي. رغم أن التداعيات المميتة للغبار النووي ستمتدّ فقط لأسابيع، النتائج الإيكولوجيّة ستكون أكثر خطورة بكثير. الخمسة ميغاطون من الدخان التي ستنتجها القنابل ستظلم السماء حول العالم. الاحترار في الغلاف الجوّي الأعلى سيدمّر معظم ما تبقّى من طبقة الأوزون. بعكس النتائج المتوقّعة للاحترار العالمي، الحرب النووية ستطلق عصر جليدي صغير يستمرّ لبضعة سنوات. خلال تلك الفترة، الحرارة في المناطق الزراعيّة الكبرى ستنخفض باستمرار إلى ما دون الصفر في فصول الصيف وعلى أثرها ستحلّ مجاعة واسعة وشاملة حول العالم.

هكذا ستكون الحال في حالة حصول حرب صغيرة. القوة التفجيريّة لمئة قنبلة بحجم تلك التي ألقيت على هيروشيما تشكّل فقط 0.03 في المئة من الترسانة النووية في العالم. إن تم استخدام عدد أكبر أو قنابل أكثر قوّة – مثل قنابل الكوبالت التي تنتج للتسبّب بإشعاعات طويلة الأمد والقضاء بالكامل على كل الحياة على سطح اليابسة التي تُلقى عليها – النتائج ستكون أسوأ بكثير. سيكون هنالك بعض الناجين، ونتائج الشتاء النووي ستكون مؤقتة، لكن القصف والحرائق التي ستنتج عنه سيطلق كميّات هائلة من الكربون في الجوّ مؤدياً إلى قتل النباتات والأشجار وتعطيل عمليّة التركيب الضوئي فيها. كنتيجة، حين يستقرّ الرماد، الاحترار العالمي سيكون أسرع وأسوأ من قبل.

مع حرب نووية أو من دونها، التوقّعات الطويلة الأمد مظلمة. الاحترار العالمي سيصبح أكثر سوءاً بعد استنفاذ الوقود الأحفوري. بالنسبة للكوكب، فترة التعافي من هذا الأمر تُقاس بعشرات ملايين السنين، وهذا إن تعافى بشكل كامل. كما أشار (العالم البريطاني) جيمس لوفلوك، حدث احترار عالمي كبير قد يدفع الكوكب إلى توازن مختلف، توازن أكثر حرّاً بكثير من التوازن الحالي. من الممكن أن النباتات والأشجار والحيوانات الكبيرة ستكون في هذه الحالة قادرة على الاستمرار في العيش في المناطق القطبية. ومن الممكن أيضاً أن الكوكب بأكمله قد يضحي غير قابل للحياة بالنسبة للحيوانات والنباتات الكبيرة، مع مناخ أشبه بكوكب الزهرة أكثر منه مناخ الأرض.

كل ما يتطلّبه حدوث هذا السيناريو هو استمرار الاتجاهات الحاليّة من دون مقاومة حقيقيّة وفعليّة. كل ما يتطلّبه الشرّ أن ينتصر هو ألا يفعل الخيّرون شيئاً. لكن المستقبل ليس حتمياً.

 * * *

سيناريو المقاومة المحدودة

ماذا لو حدثت أشكال محدودة من المقاومة؟ ماذا لو كان هنالك حركة مقاومة علنيّة جدّية مع مجموعة صغيرة من شبكات المقاومة السرّية تعمل بشكل مترادف؟ (هذه الحركة لن تكون حركة أغلبية، نحن نقوم باستقراء الواقع لا بالتخيّل الوهمي). ماذا لو قامت تلك الحركات بتوحيد استراتيجيّتها الكبرى؟ الحركات العلنيّة ستعمل على بناء مجتمعات مستدامة وعادلة أينما كانت، وستستعمل النشاط المباشر وغير المباشر لمحاولة الحدّ من أسوأ تجاوزات السلطة، تخفيض حرق الوقود الأحفوري، والنضال من أجل العدالة الاجتماعيّة والإيكولوجيّة. في هذه الأثناء، شبكات المقاومة السرّية ستنخرط في هجمات محدودة على البنية التحتيّة (عادة في تناغم مع الصراعات التي تحدث فوق الأرض) وخاصة على البنى التحتيّة الطاقوية، من أجل محاولة الحدّ من استهلاك الوقود الأحفوري والنشاط الصناعي العام. الرافعة الأساسيّة لهذه الخطّة ستكون اختيار هجمات محدّدة من أجل تسريع الانهيار بطريقة مقصودة، كهدم مبنى متداعٍ.

إن حصل هذا السيناريو، تطوّر السنوات الأولى سيحصل بطريقة مشابهة للسيناريو الأوّل. ستحتاج العمليّة للوقت من أجل بناء المقاومة والتحالف مع المجموعات المقاومة الموجودة في استراتيجية كبيرة. إلى ذلك، الحضارة في ذروة جبروتها ستكون قوّية جداً لإسقاطها عبر مقاومة جزئيّة. السنوات بين 2011 و2015 سترى نتائج الذروة النفطيّة وبداية الانحدار الاقتصادي، لكن في هذه الحالة سيكون هنالك هجمات جراحيّة على البنية التحتيّة للطاقة تحدّ من استخراج الوقود الأحفوري (مع تركيز على الصناعات الأكثر سوءاً كتلك التي تقوم على إزالة الجبال واستخراج النفط من رمال القطران). بعض هذه الهجمات ستخوضها مجموعات مقاومة موجودة منذ الآن (مثل جبهة تحرير دلتا النيجر)، وبعضها ستشنّها مجموعات جديدة، من ضمنها مجموعات في العالم الغني والقوي. النقص المتزايد في امدادات النفط سيجعل من الهجمات على الأنابيب والبنية التحتية أكثر شعبية في صفوف المجموعات المسلّحة بكل فصائلها. خلال هذه الفترة، ستقوم مجموعات المقاومة بالتنظيم، التدرّب، والتعلّم.

هذه الهجمات لن تكون رمزيّة. ستكون هجمات جدّية مصمّمة لتكون فعّالة وتوقيتها مختار بطريقة تخفّض “الأضرار الجانبية” قدر المستطاع على البشر. ستكون مكوّنة بشكل أساسي من أعمال التخريب، وستكون بهدف الحدّ من استهلاك الوقود الأحفوري بنسبة 30 % في السنوات القليلة الأولى، والمزيد بعد ذلك. وسيكون هنالك هجمات مشابهة على البنى الطاقوية الأخرى مثل خطوط الكهرباء. لأن هذه الهجمات ستسبّب انخافض ملحوظ لكن غير كامل في توافر الطاقة في العديد من الأماكن، سيحفّز ذلك استثمارات هائلة في الطاقة المحلّية المتجددة (بالإضافة إلى اجراءات أخرى مثل التسخين على الألواح الشمسيّة وتحسين عزل المباني في بعض الأماكن). هذا سيطلق عمليّة من اللامركزيّة السياسيّة وفي البنى التحتيّة. وسينتج عنه أيضاً قمع سياسي وعنف حقيقي في وجه أولئك المقاومين.

في هذه الأثناء، الحركات العلنيّة ستحاول الكسب قدر المستطاع من الفوضى الاقتصاديّة. سيكون هنالك صعود للوعي والتنظيم الطبقي. ناشطو العمّال والفقر سوف يلتفتون بشكل متزايد إلى الاكتفاء المجتمعي المحلّي. ناشطو الانتاج المحلّي للغذاء والاكتفاء المحلّي سوف يحصلون على دعم متزايد من الناس الذين لفظتهم الرأسماليّة. ذوي العمالة الناقصة والعاطلون عن العمل – الذين تنمو أعدادهم بسرعة – سيبدأون بتنظيم اقتصاد إعاشة وتجارة خارج الرأسماليّة. سيتم ترويج المساعدة المتبادلة وتبادل المهارات بشكل متزايد. في السيناريو السابقة، تطوير هذه المهارات يعرقله جزئياً عدم القدرة على الوصول للأرض. لكن في هذا السيناريو، المنظّمات العلنية ستتعلّم من مجموعات مثل “عمّال من دون أرض” في أميركا اللاتينيّة. التنظيم الجماهيري ومصادرة الأراضي ستجبر الحكومات على التخلّي عن الأراضي غير المستغلّة من أجل إنشاء المصطبات الزراعية والحدائق الغذائية المشتركة والمزارع التعاونيّة.

الوضع في العديد من دول العالم الثالث سيتحسّن في الواقع بسبب الانهيار الاقتصادي العالمي. دول العالم المتقدّم لن تستطيع فرض تسديد ديون عالميّة بفوائد مرتفعة وبرامج الإصلاح البنيوي على دول العالم الثالث، ولا عصابات وكالة الاستخبارات الأميركية المركزية ستستطيع دعم ديكتاتوريّات “صديقة”. الانخفاض في اقتصادات التصدير سيؤدي إلى عواقب كثيرة بالطبع، لكنه سيسمح أيضاً بإعادة الأراضي التي كانت تستعمل في الماضي من أجل الزاراعات التي تدرّ الأموال، إلى مزارع مستدامة.

الزراعة الصناعيّة ستترنّح وتبدأ بالانهيار. الأسمدة الاصطناعيّة ستصبح مكلفة أكثر وأكثر وسيتم تقنينها بحذر، مما سيخفّض من تآكل التربة ويسمح للمناطق الميتة في المحيطات بالتعافي. سيتمّ الحدّ من المجاعات عبر الزراعة المحدودة (زراعة الكفاف) وعبر تحوّل المزارع الصغيرة نحو العمل اليدوي التقليدي والأحصنة والبغال، لكن الغذاء سوف يكون أكثر قيمة وأقلّ توافراً بشكل عام.

حتى ولو بلغ الانخفاض في استهلاك الوقود الأحفوري خمسون في المئة لن يكون ذلك كافياً لإبعاد المجاعات والموت الجماعي. كما ناقشنا سابقاً، معظم الطاقة المستخدمة تذهب إلى الأمور غير الأساسيّة. في الولايات المتحدة، القطاع الزراعي يستهلك أقل من 2 في المئة من الاستهلاك الاجمالي من الطاقة، ومن ضمنها الاستهلاك المباشر (مثل وقود الجرارات والكهرباء والمضخّات) والاستهلاك غير المباشر (كالأسمدة الاصطناعيّة والمبيدات). ذلك صحيح حتى ولو أن الزراعة الصناعيّة غير كفوءة بشكل كبير وتستهلك نحو عشر سعرات حرارية من الوقود الأحفوري لكل سعرة حرارية تنتجها. الاستهلاك المنزلي من الطاقة يستهلك نحو 20 في المئة فقط من الاستهلاك الأميركي، والاستهلاك الصناعي، التجاري، والنقل يشكّلون غالبية ما تبقّى من استهلاك الطاقة. معظم تلك الطاقة المنزليّة تذهب لتشغيل الأجهزة المنزليّة مثل مجفّف الشعر، التكييف الهوائي، وتسخين المياه. الطاقة المستعملة من أجل الإضاءة وتدفئة المساحات الداخلية يمكن تخفيضها بشكل كبير عبر اجراءات بسيطة مثل تخفيض معيار الحرارة وتدفئة الغرف التي يعيش فيها الناس فقط بدلاً عن كل المبنى (معظم الناس لا تقوم بذلك الآن، لكن في حالة انهيار، سيقومون بذلك وأكثر).

فقط نسبة صغيرة من طاقة الوقود الأحفوري تذهب في الواقع إلى أساسيّات العيش، وحتى تلك الطاقة يتم استعمالها بطريقة غير كفوءة. انخفاض قدره خمسون في المئة في الطاقة المتأتية من الوقود الأحفوري يمكن تكييفه بسهولة لتشكيل اقتصاد يقوم على أساسيّات العيش (بدل الاقتصاد المالي). فلنتذكّر أنه في أميركا الشمالية، أربعون في المئة من كل الغذاء يتم ببساطة رميه. طبعاً، الفقر والجوع مرتبطان ببُنى السلطة التي تمارس على الناس أكثر من ارتباطهما بكميّة الطاقة المتوافرة. حتى الآن في ظلّ ذروة استهلاك الطاقة، هنالك مليار إنسان جائع. لذا إن كان بعض الناس جائعون أو باردون بسبب هجمات انتقائيّة على البنية التحتيّة، فذلك سيكون نتيجة مباشرة لأفعال من هم في السلطة، لا المقاومون.

في الواقع، حتى وإن أردت أن يكون بمقدور الناس أن يستخدموا المصانع من أجل صناعة التوربينات الهوائية واستعمال الجرّارات لزراعة الطعام خلال الخمسون عام المقبلة، فرض تخفيض فوري لاستهلاك الوقود يجب أن يكون في أعلى لائحة أولوياتك. معظم الطاقة الآن تُهدر على الخردة البلاستيكيّة، البيوت الضخمة للأغنياء، القنابل الخارقة للتحصينات، والطائرات القاذفة من دون طيّار. الطريقة الوحيدة لضمان بقاء بعض النفط من أجل الحاجات الأساسيّة خلال عشرون عام من اليوم هو ضمان أنه لن يتم هدره اليوم. الجيش الأميركي هو أكبر مستهلك للنفط في العالم. هل تريدون أن تضطرّوا إخبار أطفالكم بعد عشرون عام من اليوم أنهم لا يمتلكون ما يكفي من الطعام لأن كل الطاقة تم صرفها على حروب استعماريّة عبثيّة؟

بالعودة إلى السيناريو، في بعض المناطق، الضواحي الغنيّة التي ستُهجر بشكل متزايد (والتي لا يمكن العيش فيها من دون وقود رخيص) سوف يتم الاستيلاء عليها وتحويل المنازل الفارغة إلى مزارع ومراكز اجتماعيّة وعيادات، أو سيتمّ ببساطة تفكيكها من أجل تحويلها إلى قطع للمعدّات الأخرى. الكاراجات سيتم تحويلها إلى حظائر – معظم الناس لن يكون بامكانهم دفع تكاليف الوقود بجميع الأحوال – وسترعى قطعان الماعز في الحدائق. العديد من الطرقات سيتم اقتلاعها وتحويلها إلى مراعي أو غابات. هذه المستوطنات المستصلحة لن تكون ذات تكنولوجيا عالية. الجيوب الغنيّة المغلقة قد يكون لديها ألواحها الشمسيّة وتوربيناتها الهوائيّة الخاصة، لكن معظم العاطلون عن العمل لن يكون بامكانهم دفع ثمن هكذا أمور. في بعض الحالات، ستصبح هذه المجتمعات مستقلّة. ممارساتها الاجتماعيّة ودرجة المساواة فيها ستختلف بحسب وجود ناس راغبة بفرض حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية. سيكون على الناس أن تقاوم بشدّة حين يتم استخدام العنصرية وكراهيّة الأجانب كأعذار للظلم والاستبداد.

الهجمات على البنى التحتيّة للطاقة ستصبح أكثر شيوعاً في ظلّ تناقص إمدادات النفط. في بعض الحالات، هذه الهجمات ستكون ذات دوافع سياسيّة، وفي أخرى ستكون بهدف الحصول على الكهرباء أو النفط من الأنابيب للناس الفقراء. هذه الهجات ستعظّم الانحدار الطاقوي وسيكون لذلك وقع اقتصاديّ ملموس، لكنه أيضاً سيغيّر مسار النموّ السكّاني. سوف يبغ عدد سكّان العالم ذروته بشكل أبكر، والحد الأقصى من السكّان سيكون أصغر (ربّما بمليار) مما كان عليه الأمر في سيناريو “اللامقاومة”. ولأن الانهيار الحادّ سيحصل قبل أوانه بالطرق الأخرى، سيبقى هنالك أراضٍ سليمة أكثر وسيكون هنالك ناس أكثر يعرفون القيام بزراعة الكفاف.

وجود حركة مقاومة منظّمة ستحرّض السلطات على القيام بردّة فعل. بعض السلطات ستستخدم المقاومة كعذر للاستيلاء على المزيد من السلطة وتنفيذ الأحكام العرفيّة أو فاشيّة صريحة. بعضهم سيستغلّون الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تضرب الكوكب. وبعضها لن يحتاج لأي عذر.

الاستبداديّون سوف يستولون على السلطة حيثما استطاعوا، وسيحاولون القيام بذلك في كلّ بلد في العالم تقريباً، لكنّ جهودهم ستعرقلها المقاومة العلنيّة والسرّية، واللامركزية المتعاظمة وظهور المجتمعات المستقلّة. في بعض البلدان، التعبئة الجماهيرية ستنجح في إيقاف الديكتاتوريين. في بلدان أخرى، صعود المقاومة سوف يؤدي إلى تفكك حكم الدولة المركزي، ما قد ينتج كونفيدراليات في بعض المناطق وأمراء حرب في مناطق أخرى. في البلدان غير المحظوظة، الاستبداديّون سيستولون على السلطة. الأخبار الجيّدة هي أن الشعب سيكون لديه بنية تحتية مقاومة موجودة مسبقاً لمحاربة الاستبداد والحدّ من طغيان السلطويين، والمستبدّون لن يكونوا قد طوّروا نفس المستوى المتقدّم من تكنولوجيا السيطرة التي تحدّثننا عنها في سيناريو اللامقاومة.

سيبقى هنالك الكثير من اللاجئين الذي سيغمرون العديد من المناطق (ومن ضمنها المناطق المدينيّة). التخفيض في الانبعاثات سوف يخفّف أو يأجّل كارثة المناخ. شبكات المجتمعات المستقلّة والمكتفية ستكون قادرة على قبول وإدماج بعض هؤلاء اللاجئين. بنفس الطريقة التي يمكن فيها للنباتات ذات الجذور العميقة أن تمنع انزلاق التربة على سفح حاد، أمواج اللاجئين سوف تصغر عند مرورها في بعض المناطق عبر المجتمعات التي ترغب بذلك. في مناطق أخرى، عدد اللاجئين سيكون أكبر بكثير مما يمكن التعامل معه بفعاليّة.

تطوير الوقود الحيوي (ومصير الغابات الاستوائيّة) في هذا السيناريو هو غير مؤكّد. الدول المركزيّة المتبقّية – رغم أنها ستكون أصغر وأقل جبروتاً – ستكون لا تزال قادرة على عصر بعض الطاقة كلّما استطاعت. المقاومة المسلّحة الحقيقية – التي ستشمل في العديد من الحالات التمرّد وحرب العصابات المفتوحة – قد تكون ضرورية لمنع الصناعيّين من تحويل الغابات الاستوائية إلى مزارع أو استخراج الفحم.  في هذا السيناريو، المقاومة ستكون محدودة، ومن المشكوك فيه أن يكون المستوى الذي نتحدّث عنه من المقاومة ممكناً.

هذا يعني أن النتائج الطويلة الأمد للاحتباس الحراري ستكون غير مؤكدة. حرق الوقود الأحفوري يجب أن يكون محدوداً إلى أقلّ قدر ممكن لتفادي كارثة التغيّر المناخي، وهذا الأمر قد يكون تحقيقه صعب جداً.

إن كان يمكن تفادي كارثة المناخ، العديد من المناطق ستكون قادرة على التعافي بشكل سريع. العودة إلى الزراعات التعدّدية القديمة، إلى جانب المجتمعات المستقلّة، تستطيع أن تعكس مسار الاحتباس الحراري. المحيطات ستبدو بشكل أفضل بسرعة، يساعدها انخفاض الصيد الصناعي ونهاية تسرّب الأسمدة الاصطناعيّة التي تخلق العديد من المناطق الميتة الآن.

 احتمال نشوب حرب نووية سيكن أقلّ بكثير مما عليه الأمر في سيناريو اللامقاومة. موجات اللاجئين في جنوب آسيا ستنخفض. الاستهلاك العام للموارد سيكون أقلّ، وحروب الموارد ستكون بالتالي أقلّ احتمالاً. الدول العسكريّة ستكون أضعف وأقل عدداً. الحرب النووية لن تكون مستحيلة، لكن إن حصلت، سوف تكون أقلّ قساوة.

هنالك الكثير من الأمور التي يبدو فيها هذا السيناريو مرغوباً، لكن لديه مشاكل كذلك، في التنفيذ وفي الاحتماليّة على السواء. إحدى المشاكل هي في إدماج النشاط العلني والنشاط السرّي. معظم المنظمات البيئية العلنيّة تعارض في الوقت الحالي أيّ نوع من المواجهة العنفيّة. ذلك قد يعيق احتمال قيام تعاون استراتيجي بين المقاومين السرّيين والمجموعات العلنية التي يمكن أن عبّأ أعداد أكبر (وكذلك سيؤدي هذا الرفض إلى فشل جهود المجموعات العلنيّة كما يظهر سجّلها حتى الآن).

من المشكوك فيه أيضاً ما إذا كان الحدّ من استهلاك الوقود الأحفوري الموصوف هنا سيكون كافياً من أجل تفادي كارثة الاحتباس الحراري. إن حصلت الأخيرة، ستطيح بكل العمل المفيد الذي قامت به المجموعات العلنيّة. الوجه الآخر للمشكلة هو أن الانحدار الحادّ في استهلاك الوقود الأحفوري سيقود على الأرجح إلى حرمان وخسائر بشرية كبيرة. من المحتمل أيضاً أن دفع اعداد كبيرة من الناس إلى ممارسة زراعة الكفاف في وقت قصير هو توقّع غير واقعي. في الوقت الذي سيصبح فيه معظم الناس مستعدّون لأخذ هذه الخطوة، سيكون قد فات الأوان.

فيما هذا السيناريو يمثّل مساومة مثاليّة نوعاً ما – حيث يربح الكوكب والبشر على السواء – يمكن أن يكون أيضاً سيناريو يخسر فيه الجميع إن لم يتواءم مع تحرّك جدّي وفي وقته. وهذا ما يأخذنا إلى السيناريو الأخير، سيناريو اندلاع مقاومة شاملة وهجمات على البنية التحتيّة تهدف لضمان استمرار كوكب قابل للعيش.

 * * *

هجمات شاملة على البنية التحتيّة

في هذا السيناريو الأخير، المقاومة المسلّحة سيكون لديها هدف رئيسي واحد: تخفيض استهلاك الوقود الأحفوري (وبالتالي كل الضرر البيئي) بأقصى سرعة ممكنة. تحقيق انخفاض قدره تسعين في المئة سيكون الهدف العام. بالنسبة للمقاومين في هذا السيناريو، الأثر الذي سيتركه ذلك على البشر المتحضّرين سيكون ثانوياً.

وهذا منطقهم باختصار: البشر لن يقوموا بشيء في الوقت المناسب من أجل منع الكوكب من الدمار الكامل. الفقراء مشغولون بأساسيّات العيش، والأغنياء يستفيدون من الوضع، والطبقة الوسطى مهووسون بامتيازاتهم وأمورهم الخاصة وبالترفيه التكنولوجي لدرجة تمنع من القيام بأي شيء. خطر بدأ الكارثة المناخية هو آنيّ، وانخفاض عدّد السكّان أمر لا يمكن المناص منه عاجلاً أم آجلاً، وسيموت ناس أقلّ إن حصل الانهيار بشكل أسرع مما لو كان سيحدث لاحقاً.

فكّر بها بهذه الطريقة. نحن نعلم أننا تجاوزنا قدرة الأرض على إعالتنا. هذا يعني أنه هنالك قدر كبير من الناس الأحياء اليوم سيموتوا قبل أن نعود إلى ضمن مستوى قدرة الأرض. وهذا الفارق بين أعدادنا والقدرة الأرض ينمو يوماً بعد يوم. كل يوم، قدرة الأرض على إعالتنا تنخفض فيما كل يوم تتزايد أعداد السكان بأكثر من مئتي ألف. الناس التي تتم إضافتها هذه الحالة هي وفيّات غير ضروريّة وغير مبرّرة. تأخير الانهيار، هو بحدّ ذاته أحد أشكال القتل الجماعي.

إلى ذلك، سيناقش المقاومون بأن البشر هو فقط فصيل واحد من بين ملايين. قتل الملايين من الفصائل لمصلحة جنس واحد هو مجنون، كما أن قتل ملايين الناس من أجل شخص واحد هو جنون. وبما أن انهيار إيكولوجي كامل سيتسبب بموت البشر بجميع الأحوال، ستكون تلك الأجناس الحيّة الأخرى قد ماتت من أجل لاشيء، والكوكب سيحتاج لملايين السنين للتعافي. لذلك، أولئك الذين يهتمّون بمستقبل الكوكب سيكون عليهم تفكيك البنية التحتية الطاقويّة الصناعيّة في أسرع وقت ممكن. سيكون علينا أن نتعامل مع نتائج ذلك قدر المستطاع. إلى ذلك، الانهيار السريع، يعتبر المقاومون، هو على المدى الطويل أفضل للبشر – حتى وإن كان هنالك موت جزئي – لأنه يضمن على الأقل أنه يمكن للناس فيما بعد أن يعيشوا على كوكب قابل للحياة. ولنتذكّر أكثر الناس حاجة لإسقاط المنظومة هم الناس الفقراء، الريفيين، في معظم أنحاء العالم: كلما كان المقاومون قادرون على إسقاط الحضارة الصناعية بشل أسرع، كلما كان وضع أولئك الناس وأرضهم أفضل. والعكس صحيح، من دون كفاح عاجل، الجميع سيموت.

في هذا السيناريو، المقاومون السرّيون المنظّمون جيداً سيقومون بهجمات منسّقة على البنية التحتيّة الطاقوية حول العالم. تلك الهجمات ستأخذ كافة الأشكال التي يمكن للمقاومون القيام بها من هجمات على الأنابيب، خطوط الكهرباء، الخزّانات، المصافي، وقد يستعملون القنابل الكهرومغناطسيّة EMP (التي تعطّل الآلات فقط) من أجل التعطيل. بعكس السيناريو السابق، لن يكون هنالك محاولة للتناغم مع مجموعات النشاط العلنيّة. ستكون الهجمات متواصلة بقدر المستطاع. توافر الوقود الأحفوري سينخفض بنسبة 90 في المئة، وانبعاثات ثاني أوكسيد الكربون ستنحدر.

الاقتصاد الصناعي سينهار. عمليّات التصنيع والنقل ستتوقّف بسبب الانقطاع المتواتر للكهرباء والأسعار المرتفعة جداً للوقود الأحفوري. بعض، وربّما معظم الحكومات سوف تفرض قوانين عرفيّة وتقنين. الحكومات التي ستسلك الطريق الاستبداديّة ستكون هدف مفضّل للمقاومة المسلّحة. الدول الأخرى ببساطة ستفشل وتتفكّك.

نظرياً، في ظلّ تخفيض قدره 90 في المئة في توافر الوقود الاحفوري، سيبقى هنالك ما يكفي لتأمين الاحتياجات الأساسيّة مثل زراعة الغذاء، التدفئة، والطبخ. الحكومات والمؤسّسات المدنيّة يمكنها أن تحاول التحوّل إلى نشاطات الاكتفاء الذاتي لسكّانها، لكن الجيوش والأغنياء سيحاولون أن يستولوا عملياً على كل الامدادات المتبقيّة من الطاقة. في بعض الأماكن، سوف ينجحون في ذلك وسينتج عن ذلك انتشار المجاعة في صفوف السكّان. وفي أماكن أخرى، الناس سيرفضون الطبقة الموجودة في السلطة. معظم المؤسسات الكبيرة الموجودة الآن ستنهار ببساطة، وسيكون الأمر بيد السكّان المحلّيين لأخذ موقف للدفاع عن حقوق الإنسان ونوعيّة الحياة أو الاستسلام لسلطات الاستبداد. معدّل الوفيّات سوف يرتفع، لكن كما رأينا في أمثلة من كوبا وروسيا، يمكن للنظام المدني أن يستمرّ رغم كلّ الصعوبات.

ما يحصل من بعدها يرتبط بعدد من العناصر. إن استمرّت الهجمات وبقي استخراج النفط في حدوده الدنيا لفترة طويلة، الحضارة لن تكون قادرة على الأرجح على إعادة بناء نفسها.

سيبقى هنالك جيوب صناعيّة محميّة جيداً، تنقل الوقود تحت حماية السلاح. إن نجح القانون العرفي في وقف الهجمات بعد الموجة الأولى (وهو أمر كان مستحيلاً مثلاً في حالة مثل نيجيريا)، النتائج النهائية لن تكون مؤكّدة. في القرن العشرين، المجتمعات الصناعيّة تعافت من الكوارث، كما فعلت أوروبا بعد الحرب العالميّة الثانية. لكن الوضع هنا مختلف. في معظم المناطق، لن يكون هنالك مساعدة خارجيّة. لن يكون بامكان السكّان أن يتجاوزوا قدرة الأرض المحلّية على إعالتهم المتاحة حالياً عبر الوقود الأحفوري. هذا لا يعني أن النتائج ستكون نفسها في كلّ مكان؛ المجتمعات الريفية والتقليدية ستكون أكثر قدرة على التأقلم.

في معظم المناطق، إعادة بناء حضارة صناعيّة مستهلكة كثيفة للطاقة سيكون مستحيلاً. وحتى في الأماكن التي ستستمرّ فيها المؤسّسات السياسيّة، الاستهلاك سينخفض. لن يكون باستطاعة الذين في السلطة أن يمدّوا قوّتهم إلى مناطق بعيدة، وسيكون غالباً عليهم أن يحدّوا نشاطاتهم إلى المناطق القريبة. هذا يعني، على سبيل المثال، أن إنشاء مزارع الوقود الحيوي على أنقاض الغابات الاستوائية لن يكون ممكناً. الأمر نفسه بالنسبة لاستخراج النفط من رمال القطران وإزالة الجبال للتعدين. بناء بنيى تحتيّة هائلة جديدة سيكون بكل بساطة مستحيلاً.

رغم أن أعداد السكّان ستنخفض، الأمور ستبدو جيّدة لكل الفصائل الأخرى. المحيطات ستبدأ بالتعافي بسرعة. الأمر نفسه بالنسبة للمناطق البرّية المتضرّرة. وبما أن انبعاثات الغازات الدافئة ستكون قد تقلّصت إلى نسبة صغيرة من مستوياتها السابقة، سيكون من المرجّح تفادي الكارثة المناخية. في الواقع، الغابات المتعافية والبراري ستسحب الكربون وتساعد على الحفاظ على مناخ قابل للحياة.

الحرب النووية ستكون مستبعدة. تناقص السكّان والنشاط الصناعي سوف يقلّص المنافسة بين الدول المتبقّية. القيود على الموارد لها نتائج لوجستيّة بطبيعتها، لذا تصعيد صراعات الموارد حول المناطق الغنيّة إلى حروب سيكون من دون جدوى.

هذا السيناريو أيضاً لديه ثغرات في معقوليّته وتطبيقه. هو يضمن مستقبل الكوكب والجنس البشري، وإن حصل سينقذ ترليارات وترليارات المخلوقات الحيّة. نعم، سوف يخلق الكثير من الصعوبات للأغنياء والفقراء في المدن، رغم أن معظم الباقون سوف تكون حالهم أفضل بسرعة. من القليل جداً أن نقول أن المبدأ الذي تحدّثنا عنه هنا غير شعبي (رغم أن المقاومون في هذا السيناريو سيجادلون بأن ناس أقل سيموتون مقارنة مع حدوث الكارثة المناخية أو استمرار الأعمال كالمعتاد).

هنالك أيضاً سؤال امكانيّة حدوث هكذا سيناريو. هل سيتحرّك ما يكفي من الراديكاليين لتنفيذه؟ لا شكّ أنه بالنسبة للكثير من الناس، السيناريو الثاني الأكثر اعتدالاً يبدو أكثر جاذبية واحتمالاً.

هنالك طبعاً احتمالات لا حصر لها للمستقبل يمكن توقّعها. لكننا سنصف مستقبل واحد محتمل، هو مزيد من السيناريوهين السابقين حيث تخوض المقاومة استراتيجية الحرب الإيكولوجيّة الحاسمة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *